البروفيسور فرانسيس دينق ل " السوداني"
الانـفـصال سيحدث وما عاد نظرية محل جدل..وهكذا نتفاداه
النميري قال لي إنه سيتحرر من الهيمنة العربية بعد إنتاجنا للبترول
لو كنت مسلما ً لهيأت المناخ وقدمــت نموذجا ً لابراز صفات الاسلام الجــــميلة
بســــبب إستخدامها للسيطرةالسياسية, الثقافة العــــربية أصبحت عقدة للجنوبيين
لولا الانجليز لأضاف الجنوبيون الكثير للغة العربية.. وإستفادوا بها!
العرب والمسلمون غمطوا حق الجنوب..ولم يتدخلوا ليعدلوا بين الطرفين..
واشنطن: صلاح شعيب
فرانسيس دينق أسم كبير في عوالم كثيرة, تبدأ من الدبلوماسية والادب مرورا ً بالاكاديميا والسياسة والمنظمات الدولية وإنتهاء ً بالفكر المتعلق بكل هذه العوالم, التميز الذي حققه في كل هذه المجالات جعلت إسمه يتردد محلياً وإقليميا ً ودولياً,وقفزا ً إلي واقع الحال اليومي, الذي يعايشه السودانيون الآن وربما في المستقبل القريب والبعيد, يمكن القول أن فرانسيس يقف وراء معطياته السارة أو إخفقاقاته الكثيرة, فالدور الذي بذله علي مستوي إتفقية السلام بين الجنوب والشمال والتي إنتهت ببرتكولات نيفاشا يعتبر رائدا ً ومؤسساً, فمن خلال وجوده في العاصمة الامريكية ــ وعبر نيابته لرئاسة معهد بروكين والذي يعتبر من أكبر المؤسسات التي تقدم أبحاثاً في المجالات الاستراتيجية في العالم ــ جاءت الاقدار ليطلب منه تقديم تصوراً لحل مشكلة الجنوب ويكون ذلك التصور المعد لمعهد السلام الامريكي, والذي هو تابع لوزارة الخارجية الامريكية, بحثاً إستراتيجيا ً يساعد الوزارة في دفع عملية السلام في السودان, وإستطاع د. فرانسيس أن يقدم ورقة " نظامين في دولة واحدة" والتي تأسيساً عليها تمت مناقشات الحذف والاضافة لتكون برنامج عمل لدول الايقاد في التعامل مع المشكلة ,خصوصاً بعد أن رمت الولايات المتحدة بثقلها السياسي المعروف وبعلاقاتها الجيوبولتيكية في المنطقة في عملية المفاوضات السياسية بين الحركة الشعبية وحكومة السودان وعليه إمكن التوصل إلي سلام نيفاشا والذي ما كان ليتم لولا هذه الضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة علي الجانبين لايقاف الحرب التي أودت بحياة مليوني شخص كما تقول تقديرات التقارير في العالم الغربي.إذن , وبصورة أو بأخري, كان لفرانسيس القدح المعلي في التأسيس لهذا السلام ضمن مجهودات أخري بذلت من قبل الاطراف المعنية لإحداث ذلك الاختراق في عملية التفاوض.علي ناحية التأليف السياسي والذي يعد من أكثر المجالات التي عرف بها د.فرانسيس دينق, بعد إنتهاء دوره كوزير دولة بالخارجية إبان عهد الرئيس جعفر النميري, وعبر هذا المجال خلق تواصلا ً ملموسا ً, ومايزال مع النخب السياسية والفكرية في الشمال والجنوب وكذلك مع النخب المهتمة بالصراع السوداني في مختلف أرجاء العالم, فمؤلفاته تراوحت حول مسائل الهوية في السودان وأفريقيا والعالم العربي وشؤون النزاعات الدولية والسياسية كما قدر له أن يكتب كذا من الروايات وترجمة بعض أشعار قبليته الدينكا, ومن ضمن هذه المؤلفات التي وجدت رواجا ً لدي القارئ السوداني نذكر طائر الشؤم والذي ترجمه للعربية البروفيسور عبدالله النعيم وحرب الرؤي وبذرة الخلاص االمترجمان بواسطة البروفيسور إسماعيل حسين ورجل يدعي دينك مجوك الذي ترجمه الاستاذ بكري جابر وأغاني الدينكا بواسطة الاستاذ شمس اليدين ضو البيت وهناك كتب أخري مثل ذكريات بابو نمر وأفريقيا من عالمين وحل مشاكل النزاعات الدولية ومشاكل الهوية في السودان وبقيت له دستة أخري من الكتب غير المترجمة من الانجليزية إلي العربية. ولعل هذه المؤلفات تجاوزت الدستين. هذا بخلاف الكتابات في المجلات الدروية المتخصصة.في هذا الحوار الذي تم بمنزله بواشنطون وبشاركة الزميلين الاستاذ طلحة جبريل مدير مكتب صحيفة الشرق الاوسط بواشنطون والاستاذ محمد علي صالح كبير مراسلي الصحيفة تحدث البروفيسور دينق عن بعض من قضايا الساحة.
د. فرانسيس دينق شكرا ً علي تفضلكم بالموافقة علي هذا الحوار ونقول بداية أنت قد تكون مختلف كثير الشئ عن بعض من الزعامات السودانية, ولدت في الشمال من أسرة جنوبية وتربيت في بيئة عرب المسيرية ودرست في الشمال ومررت بالعديد من التجارب وسط الشماليين وبلغت كرسي الوزارة ولسانك فصيح في اللغة العربية, وأسرتك تتشكل من مسلمين ومسيحيين وربما أنت إبن ذوات , حيث كان والدك ملكاً ودرست في جامعة ييل الامريكية العريقة والتي تخرج القادة من مختلف القارات ولايدرس فيها إلا أبناء الذوات الامريكان وغيرهم ثم صرت مساعدا ً للامين العام للامم المتحدة وباحثا ً مرموقاً بمعهد بروكينز بالعاصمة الامريكية..وفوقا ً عن ذلك تمارس كتابة الأدب وتزوجت من إمرأة كندية, بعد كل هذه السنين من التجارب والتناقضات والمناخات كيف تنظر لما حدث للسودان, أهي أزمة هوية أم أزمة شعب في حد ذاته أم هي أزمة ديمقراطية كانت غائبة عن تجاربه السودان السياسية وولدت مثل هذه الحروبات؟ـــــ لا اعتقد أن المسألة تتعلق فقط بغياب الديمقراطية , وأذكر إنني ألفت كتابا نشرته جامعة الخرطوم في عام 1974وشرحت فيه جذور المشكلة ورديتها إلي عدم التعامل السوداني المخلص مع مشكلة الهوية, وللاسف ان المثقفين من الشمال والجنوب معا لم يستوعبوا رسالة الكتاب.. بعض من المثقفيين الشماليين قرأوا الكتاب واختلفو معي وقالوا انه لابد من ترقية وتقوية توحدنا في اطار الثقافة العربية والاسلامية, وقال البعض الآخر منهم أن احساس هويتنا محرف عن طريق حمولات التاريخ وعليه ان واقعنا المعاش لا يعكس حقيقتنا واذا اردنا ان نصبح امة واحدة علينا ان نشرح ذلك التحريف للبحث عن ارضيات متفق حولها تضمن سلامة الحياة وإستقرار البلاد, اما الجنوبيون فقد قال بعضهم إنني اردت جر الجنوبيين ليكونوا متمثلين ضمن خطوط الثقافة العربية وكذلك قالوا انني اردت إلحاق الجنوب بالشمال وإنني من المتمثليت داخل إطار العروبة والاسلام .. هناك جنوبيون قالوا ان مسألة الهوية السودانية تتطلب ألا نكون أفارقة أو عربا ً بل سودانيين ساعيين لما يوحد هوية القطر , وفيما بعد اصدرت كتاب " افريقيا من عالمين" وبدا بعض من الشماليين يقولون إنني غيرت وجهة نظري, ولكن للاسف إنهم لم يستوعبوها في المقام الاول, ولان موضوع الهوية معقد سعيت لتبسيط الرؤية عبر كتاب "حرب الرؤي" حتي ان مدير معهد بروكين الامريكي قال لي ان المرء حين يقرأ كتابك يأخذ إنطباعا ً أن ليس هناك اسس للوحدة بين الشماليين والجنوبيين وأردف لماذا أنت تصر علي الوحدة..؟ وأجبته إنني لا أريد أن أكون مسؤولا ً عن تدمير عوامل الوحدة وتمزيق القطر الي دولتين أو أكثر, وبالتالي اكون مصنفا ً في خانة الانفصاليين واضفت ان الانفصال حرفيا ً يعني الفشل في خلق ظروف مواتية للوحدة, وليس شيئا ً مقدرا أو أنه لابد أن يحدث ـ كونه شيئا ً حتمياً, شرحت لهذا الزميل كيف أن والدي اختار البقاء في الشمال .. وسألته هل هل كان احساس والدي انه يريد أن يكون مواطنا ً من الدرجة الثانية وتحت إمرة بابو نمر شيخ العرب..؟ لقد قلت له إنما وجد والدي مصلحته في الشمال كقائد للدينكا في اقليم العرب وكانت لديه وضعية مميزة لدرجة ان زعيم العرب إختاره رئيسا رغم انه كان زعيم اقلية, كما أن الادارة البريطانية إعترفت به, فلماذا يسعي للجنوب ويقلل من وضعيته, هذا رغم أن الجنوبيون قالوا أن دينق مجوك لو جاء إلي الجنوب سنعطيه الملك.. ولكن في الواقع أن والدي رأي نفسه وهويته في الشمال ومستوعب كصاحب وضعية ضمن رصيد الثقافة العربية ..ولقد تحدث العربية ومع ذلك لم يغير هويته الدينية وبقي قائدا ً روحيا ً لجماعته, ولكنه شجع ابناءه ليكونوا مسلمين إن هم أرادوا.. هذا نموذج جيد في مسألة الوحدة طالما أنه لم ينبن عبر الجبر أو القسرية, وكان يمكننا أن نبني علي هذه الحقائق.. ولكن..ولكن د. فرانسيس دينق ألا تري أن إتفاقية أديس أبابا قد لعبت دورا كبيرا ً في تجسير العلاقة بين الشمال والجنوب وذلك في السنين الثلاثة التي أعقبت الاتفاقية حيث قامت بعض مشاريع التنمية في الجنوب ؟ــــ نعم أعتقد أن الشمال كان ساعيا لكسب " التنافس السياسي " مع الجنوب بعد الاتفاقية وكان يمكن للجنوب أن يكون مستوعباً بالتدرج وومثل بإنصاف في الثقافة السودانية عموماً.. وأذكر أن كثير من القادة الجنوبيين تزوجوا من " بنات عرب ومسلمين".. كما أن إتفاقية أبابا جعلت الشمال أكثر إهتماما ً بإحساس الآخرين بالهوية التي حاولوا ترقيتها من خلال التعريف بما هم عليه وبما يجب أن يكون القطر عليه.. وعودة الي موضوع الديمقراطية يكون التساؤل مشروعا ً حول دوافع الحرب.. وما سببها.. إن الحرب نظاميا ً كانت بين الشمال والجنوب رغم أن الشمال كله لم يكن عربياً وصور الجنوب علي انه جنوب افريقي ــ مسيحي فيه من الاعداء مافيه.. هذا كان تقسيماً مبسطاً لقطر معقد جدا ً ولذلك ليس غريبا ً أن ينتفض النوبة, فيما بعد, لهويتهم وكرامتهم.. وأذكر أن الاستاذ يوسف كوه ظل يري أنه يعيش عربيا ً حتي إكتشف نفسه في جامعة الخرطوم وسعي للبحث عن هويته وأن أهل دارفور بدلا ً عن إستخدامهم في حرب الجنوب فجأة إكتشفوا إنهم أصلا مهمشين , كما إنني اري أن النوبة في الشمال الاقصي بدأو يتضجرون من الهضم الثقافي الذي تم لهم, وفي قناعتي أن قرنق بلور هذه المسألة وقال حين بدأ تمرده أن الجنوبيين ليسوا مناضليين من أجل الجنوب فقط لان المشكلة ليست مشكلة جنوب , إنها مشكلةالسودانيين جميعا ً الذين يتم تمييزهم علي اسس عرقية ودينية ولغوية, ولهذا مارس القول بخلق سودان جديد, وقناعتي أن ما جاء به قرنق من تعريف للمشكلة زاد مستوي الاهتمام في الشمال بأمر الهوية وبدت ـــ حتي ـــ جماعات غير عربية تبحث عن هويتها وهناك جماعات ليبرالية ــ ديمقراطية تنتمي إلي قبائل عربية بدأت تبحث أيضا ً حول أمر الهوية خارج دائرة المركز الذي عرفها علي انها هوية عربية ــ إسلامية, ويرون أن كرامة السودانيين تتطلب ان يكونوا متساويين, وللاسف أن فكرة السودان الجديد لم يفهمها الشماليون والجنوبيون إلا مؤخرا ً حيث أن القبائل الجنوبية كانوا حتي وقت قريب لايفهمون فكرة السودان الجديد ولكنهم يعرفون لماذا إنهم يناضلون, وكان الشماليون يتعجبون كيف أن هذا الجنوبي الاناني ــ ويقصدون قرنق ــ لديه القابلية لتحرير الشمال!, وحتي الشماليون الليبراليون كانوا يتساءلون من هو قرنق هذا حتي يحررهم ومن من..؟ وكانوا يضيفون" وده حسي حيحكم منو" ونظروا إليه كرجل مبالغ في قصته ولم يستدركوا رسالته ويستجيبوا لهاعبر كل القطر إلا في نهاية القرن الماضي.. شخصياً أري أن صعود الاصولية الاسلامية في السودان كان جزءً أساياً لتصاعد الهجمة علي القائلين بضرورة إعادة النظر في أر الهوية, وكما يقولون أن أفضل دفاع هو الهجوم رأت هذه الاصولية أن الحركة الشعبية تريد تحويل السودان إلي قطر أفريقي ولم يقبلوا بأية تسوية وقالوا أن هذه الحركة خطيرة وحاربوا حتي الاحزاب السياسية الشمالية التقليدية اليت كانوا يرونها أنها " تمسك الاسي من النص في موضوع الهوية".. والجدير بالذكر أن الاسلاميين لم يتشبثوا بالعروبة في حربهم ضد الجنوبيين لانهمة يدركون إنها لن " تطير" بهم, وإنما إستخدموا الاسلام كأداة قوية لمواجهة ما أسموهم بالنصاري والكفار الذين ظنوا إنهم أتوا لتحرير السودان من العروبة والاسلام وليس لتحريير السودانيين من التمييز وتحقيق العدالة, ولذلك إستخدموا الايدلوجيا الاسلامية جيدا ً..ولكن إنك هنا تفصل بين العروبة والاسلام عندما تقول أن الاصولية السودانية لم توظف العروبة؟ـــــ في الواقع أن الاسلام في السودان " ماشي رجل برجل مع العروبة" وليس كما هو حاله في الاقطار الافريقية الاخري , حيث فيها يصير الاسلام إسلاماً غير مرتبطة بأيديلوجيا العرق, وغير مرتبط بالثقافة واللغة والعرق , وإنما هو مرتبط بذاته كدين محترم ومقدر في ذاته.. السودانيون , وللحقيقة كثير منهم, كما نعرف لا يأخذون لإي أحييان كثيرة إسلام الفلاتي منهم بجدية ويعتبرونه نوعا ً من الشعوذة والدجل, ويقولون أن الفلاتة لايعرفون الاسلام مثلهم لانهم لا يتحدثون العربية وى يقرأون القرآن جيدا ً.. هؤلاء النفر من السودانيين يحترمون فقط المسلميين الآسيويين مثل الباكستانيين والافغان والايرانيينو لايأخذون يإسلام الافارقة مأخذ الجدوذلك بسبب علامات التميز العرقي ولعلي في حواري الماضي معك حكيت لك قصة حول المسلمين السنغال, حيث أذكر إنني قلت لك إنني سألت مسؤول سوداني كبير عن كيف سمح السنغاليون أن يحكمهم ليوبولد سيدار سنغور وهو الرئيس المسيحي لبلد 80 في المئة من شعبه مسلم, فقال لي بما معنها " ياخي ديل ذاتهم مابعرفو الاسلام.." وضحكنا وحكيت هذه الواقعة لوزير خارجية السنغال والذي كان مسلما ً فكان رده أشبه بما نقول " إستغفر الله العظيم.." الدكتور جون قرنق كان مهندس التمرد ضد السلطة المركزية وإستطاع طوال فترة نضاله ضد الخرطوم مؤمنا ً ومنظرا ً للسودان الجديد وإستطاع أن يكسب إلي صفوفه عددا ً هائلا ً من الشماليين, الآن تفتقد الساحة جون قرنق بعد وفاته الدراماتيكية, البعض يقول أن خسارة الشمال في وفاة قرنق أكبر من الجنوب بإعتبار أنه كان يدعوا لسودان موحد . والبعض الآخر يقول أن خسارة الجنوبيين ستكون أكبر من الشماليين علي إعتبار أنه الرجل الذي قادهم الي هذه النجاحات التي حققوها عبر نيفاشا وبإعتبار أن الامل كان كبيرا ً فيه لقيادتهم مابعد الاتفاقية, والبعض الآخر يقول أن فقد السودان شماله وجنويه لقرنق سوف يظل كبيرا ً , ماذا تقول أنت؟ـــــ أعتقد أن قرنق نجح وخصوصا ً وسط المهمشين من غير العرب وكذلك الليبراليين من ذوي الاصول العربية والذين يريدون سودان المساواة مثل منصور خالد وياسر عرمان والاخير هو في الحسبان صهري حيث أختي زوجته.. إن إستقبال قرنق في الخرطوم كان إستثنائياً وذلك يدل علي عظكة إسهامه الفكري السياسي ودوره الكبير في تقيد مفهوم السودان الجديد نظريا ً, وأستطيع أن أؤكد لك أنه حتي قبل سنين كان الجنوبيون يعتقدون أن العرب هم عرب سواء كانوا علي بياض بشرتهم أو سوادها, ولكن بعد وصوله إلي الخرطوم قالوا أن هؤلاء الشماليين مثلنا ولكن تم خداعهم" ولازم نشوف أرضيات مشتركة للتوحد" وأعتقد أن ذات هذا التصور كان موجودا ً في الشمال , وأذكر أنني كنت في الخرطوم حينما وصل قرنق ".. وكان في واحد شمالي شكله شايب كده, ولكن عامل شباب.. جاني وسلم علي سلام حار بالحضن وقال لي : عندما أري اخواننا الجنوبيين أحس بفرح وأشار لصورة قرنق مع علي عبداللطيف والتي كانت معلقة في جدار الهيلتون, ثم قال لي: الشاب ده دخل قلوب السودانيين الشماليين برضو, وعندما نشوفكم جايين بتدونا فخر كبير إننا سودانيين.. وبعد داك قال لي: أنا مابعرفك.. ولا أريد أن أعرفكـ ــ رغم إنني ظننت من خلال سلامه الحار انو بعرفني..وقال لي: بس حبيت أقول ليك الكلام ده.. ومع السلامة"وأذكر أيضاً أن أحد المسؤولين في الحكومة قال لي أن أمه جنوبية ثم تحدث عن قرنق وقال"..الزول ده ما كنا عارفنه..كنا خايفين منو وأول ما جاء وشفناو وحبيناو الله أخدو بالطريقة دي"..وأذكر أيضاً أن زميلاً لنا قال لي أن زوجته كانت"... بتكره الزول ده وبتقول ليه ياخي الزول ده بكتل الشماليين, ولكن لما قرنق جا وشافتو فرحت وبعد موته بكت بحرارة..."أردت أن أقول بهذه النماذج أن قرنق كسر القيود التي فرقتنا.. ونسيت أن أقول إنني كنت في الجنوب حين مر جثمان قرنق بالعديد من المدن هناك..ورأيت ما حدث من تعظيم له ووجدت نفسي تقول " إننا فجأة أدركنا من هو الذي كان.."وهل تعتقد أن فكرة السودان الجديد ستتصاعد بذات الوتيرة أم أن نوعا ً من الخفوت أصابها؟ ثم ماهو المطلوب عمله حتي تكون الوحدة جذابة علي حسب ما نادت به الاتفاقية؟ـــــ لا أعرف أن الفكرة سوف تستمر أم لا بذات تلك الروح.. وذلك لأن قرنق كان العقل والقوة خلف ذلك الاختراع السياسي.. كل ما أعرفه إنه كسر القيد..ولكن أري أن المهمة قد بدأت بالضبط.. والملاحظ أن الذين أصبحوا أعداء لقرنق وفكرة السودان الجديد مايزال لديهم التأثير القوي في الواقع السوداني المعاش.. وأذكر أن الاستاذ علي عثمان محمد طه قال لي إنهم ما كانوا يتحرجون من فكرة السودان الجديد..وإنهم حين أنجزوا هذه الاتفاقية لم يكن يريدون أن يتحدثوا عن علاقتها بالفيدرالية أو الكونفدرالية أو غيرهما..قال لي : دعونا ننجز الاتفاقية وإن إنجازها هو الدليل علي حسن النوايا وحسن صنع الاتفاقية التي خلقت في ظروف صعبة, وكانت تلك إجابة جيدة, وقلت له إنني جئت أقل تفاؤلا ً رغم إنني عموما ً أتحدث بمعاني التفاؤل, وبعد حديثي معه أحسست إنني أكثر تشجيعا ً وفجأة تراجع مستوي التشاؤم الذي كان يحيط بي.. في الواقع أري أنه علينا أن نفكر جيداً حول اسباب تلك الحرب..ولماذا كانت حادثة في أصلها..؟ولأي مدي إستطعنا أن نعالجها كموضوع..؟ وماهو المنظور للمستقبل؟ وهل بحق أن هذا السلام سيكون شاملا ً ..؟ وهل سنعالج قضايا دارفور بذات المستوي وكذلك البجا والنوبة حتي نحقق وحدة السودانيين كلهم؟وماذا عن زوجة قرنق ربيكا, هل يمكن أن تطلع بالدور الذي كان زوجها الراحل يقوم به , ثم ماذا عن تقربها وسط الجنوبيين؟مدام ربيكا قالت لي إنها لم تدرك كيف أن زوجها كان علي حق إلا بعد أن شاهدت وعرفت أن مساحات واسعة من الشمال محرومة وفقيرة ومهمشة وأنها اصبحت أكثر قناعة حول فكرة السودان الجديد, بل وإنها قالت أن هناك مناطق في الجنوب أفضل كثيرا ً من مناطق محددة في الشمال, والموضوع ليس هو تقرب الجنوبيين نحو ربيكا.. علينا أن نسأل عن دورنا لبناء الوحدة..هل تحس د. فرانسيس أن هناك ثمة خلافات "نفسية" بين الشماليين والجنوبيين تحول حتما ً دون توحدهم, وهل أنت شخصيا ً تحس بأن هناك شيئا ً مميزا يبعدك عن الشماليين, أو أن هناك شيئا ً مميزا ً للشماليين يبعدهم عنك؟ـــــــ في صغري كنت أري أن " اولاد الشماليين ديل عرب" وعندما مشيت خورطفت للدراسة كنت" حاسي بالخلافات التي بيننا.. أنا كدينكاوي وديل كعرب.." والآن لا أري كبير إختلاف حين التواجد والتحدث مع السودانيين سواء من الشمال أو الجنوب.. الآن بدأت أري أن أخواني وأخواتي من السودانيين أقرب إلي من أية جنسيات أخري, ولكن الذي يفرقنا هو النظام السياسي ـــ حيث عجز أن يصل بنا إلي الارضيات المشتركة للتعايش.د.فرانسيس نود أن نسألك عن إمكانية إقامة الوحدة بين الشمال والجنوب في ظل الظروف الصعبة التي نعايشها..والملاحظ الآن أن وفاة الدكتور جون قرنق خلقت فراغاً عريضاً علي مستوي الساحة السياسية, كما أن هناك بوادر حركات انفصالية في الشمال اقوي من الجنوب, فضلا عن ذلك أن اتفاقية نيفاشا تسير ببط غير عادٍ مما لايشجع السودانيين في الحلم بالوحدة , الحكومة الآن مجابهة بالعديد من المشاكل الداخلية والتي ربما أعجزتها من إنجاز الاتفاقية نفسها, كما أن حكومة الجنوب منشغلة بتأسيس الدولة, هل مايزال الامل كبيرا ً بأن يصوت الجنوبيين للوحدة مع الشمال, ثم كيف تري مستقبل هذه العقبات التي تقف امام الاتفاقية؟ـــــ أولا ً سبق لي ان ضمنت ثلاثة خيارات للسودانيين في حال أرادوا العيش تحت سقف واحد يضمهم جميعاً, وليس فقط الشمال والجنوب وإنما الغرب والشرق أيضاً يأتيان ضمن هذه المعادلة, الخيار الاول هو أن نحدد إطاراً قومياً للانتماء اليه .الخيار الثاني هو أن نقبل خلافاتنا من أجل إيجاد سبيل للمساكنة, وأما الخيار الثالث والاخير هو أن نقتنع أنه ليس هناك اسس للمساكنة وعليه يبدو تجزيئ القطر ممكنا ً وواردا ً.يهمني جدا ً أن نتوحد وأن نخلق نظاما ً جديداً نحس فيه كسودانيين أنه النظام الذي ننتمي اليه ونعيش فيه علي قدم المساواة, حيث كما قلت لاتمييز وفق عرق او لون أو ثقافة, وبعدها سنكتشف أنه مادام ان هذه العوامل لاتميز بيننا ولاتؤثر علي وجودنا كمسلمين ومسيحيين وكسودانيين ننتمي لايديلوجيات وافكار ــ فإن الواقع سيكون مستقرا ً وأفضل, وهذا الواقع عايشته في اسرتي والتي تتكون من مسلمين ومسيحيين وظلت طرق حياتنا متنوعة ولكن الاسرة مستقرة وفق هذه الاختلافات التي تم فهمها والتعامل معها.. إنني اقول للسودانيين ياجماعة أنظروا للمرآة وسوف نري ظلالا ً من الالوان وفيها إختلافات الثقافة والتدين وأساليب لغوية غنية ومدهشة وتنوعات علي مستوي الغناء والفن وغيرهما. طبعا البعض يقول اننا في النهاية سودانيين خلقنا كرجال ونساء متساويين, ولكن هذا شعار و " كلام ساكت " نقوله ولا نطبقه.. إننا نحتاج إلي رؤي للعمل وليس قوانيين فقط, إننا نحتاج إلي تطوير افكارنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتشجيع التفاعل والاندماج بينما نحن نسعي لتطبيق نيفاشا أو بقية القوانين, علينا أن نجعل السوداني الشمالي قادر علي أن يذهب للجنوب ويبني منزله هناك ويسكن تحت حماية الجنوبيين ويعمل في حكومة الجنوب, وبذات القدر نأمل أن يأتي الجنوبيون إلي الشمال ويعيشوا في الاماكن التي يختارونها ونشجعهم بالتداخلات الاجتماعية وألا يحسوا انهم معزولين. .. إن الدينكا يطنون الان ان الخرطوم تتحالف مع الشماليين العرب ضد القبائل الافريقية..مالم نقنعهم أن الخرطوم تحميهم فإن ذلك لن يخلق وحدة.. إن القيادة السياسية عندما تحقن الممارسة السياسية بفلسفة مثل التي خلقها جون قرنق وكسب بها الشماليين وضمهم لصفه, فإنها تستطيع أن تضم كل السودانيين لصفها.. والجميل أن قرنق لم يكن ليميز نفسه كجنوبي او دينكاوي, رغم انه يعرف نفسه هكذا, ولكنه سعي لخلق الهيكل النظري الذي يكسر هذه القيود العرقية لصالح كل السودانيين ويجعلهم متناغمين بعضهم البعض, ولهذا أقول دائما ً أن الفكر الذي اتي به قرنق ليس لحل مشكلة السودان وإنما مشكلة افريقيا كلها.. أنه كان يملك سحرا ً منعشا لتجميع قدرات السودانيين.وهناك واجبات علي القادة في الشمال والجنوب .. عليهم أن يطرحوا أنفسهم بصدق لتطبيق هذه الاجراءات.. إننا لانحتاج أن نخلق من المسجد بيتا ً للضغينة تجاه الاخرين ولانريد أن نمشي الكنائس ونفعل نفس الشئ.. لانريد للقادة أن يظلوا في مواقفهم الخصامية, عليهم أن يمشوا لمناطق النزاع ويدافعوا عن المواطنيين الشماليين والجنوبيين علي حد سواء وحل مشاكلهم ويبنوا بذلك للوحدة.. إذا حدث كل هذا سينظر الجنوبي لهذا القائد الشمالي ويقول هذا رئيسي واحترمه وأفتخر به , وكذا الحال سيري الشمالي هذا القائد الجنوبي ويقول هذا أخي وأنا فخور به.. هذه هي اسس الوحدة متي ما توفرت فإن الوحدة ستكون واقعاً ملموسا ً.. البعض يشير يادكتور إلي أن النظام الحالي الذي يقوده الاسلاميون لن ينجز الوحدة ولابد من إسقاطه وقيام نظام آخر محله يحافظ علي نص وروح الإتفاقية حتي تتطور هي نفسها وتحقق للجنوبيين والشماليين مصالحهم العامة؟حين تطالب بتغيير النظام هذا يعني إنك تريد أن تدفع شخصا ما للخارج, وهذا لو حدث فإنه هو نفسه سيسعي من بعد لدفعك خارج السلطة, وعليه سيكون هناك صراعا ً متواصلا ً مع السلطة وضدها ولا حد له بين السودانيين , أنا ضد إسقاط النظام .. كل مانريده بعد كل هذه السنين هو عمل رؤي وتصورات فكرية متقدمة تساعد علي مساواة السودانيين بعضهم البعض..ولعل السؤال الكبير هو كيف نخلق هذا؟..وماذا نعني بالسودان الجديد..وماهي مصادر المساواة؟ أهي إستخدام العرقية والدين وإساءة إستخدام السلطة أم هي شئ آخر..هناك وجهات نظر تؤكد أن النظام الحالي غير قادر علي إنجاز إتفاقية نيفاشا للسلام ويبررون ذلك أن النظام الحالي يفتقد دعم كل السودانيين الشماليين, علي الاقل ولا يمثلهم, فيما أن النظام نفسه متهم بإرتكاب جرائم حرب وبالتالي هوغير قادر علي صنع وحدة السودانيين الشماليين ناهيك عن الجنوبيين, ويرون إنه لابد من محاكمة النظام وأفراد منه ومن ثم تحقيق تسوية شمالية ـ شمالية يشارك فيها الاسلاميون أنفسهم حتي تساعد في خلق مناخ أفضل لتحقيق إلتزامات نيفاشا والتي جاءت لإرساء قيم السلام الشامل..؟هذا صحيح ولكن يبقي الاشكال هو انه متي ما كان لدينا واقعا ً للصراع خصوصا ً في قطر مثل السودان, والذي إستمر صراعه لنصف قرن, فإن هناك ملامات وإتهامات عديدة ستبقي مطروحة, وفي واقع كهذا يكون من الصعوبة بمكان إيجاد أياد ٍ نظيفة لم تتلوث بالدماء في هذا النوع من الصراعات, وحتي الحركة الشعبية لديها تجاوزات في حقوق الانسان, والتجاوزات في الجانبين تتعلق بالتنظيم وبالافراد, ولذلك حينما نسعي أونتحدث عن العدالة في محاكمة الذين إرتكبوا جرائم حرب فإننا سنعاني كثيراً في تحديد هذه المسائل..وأذكر أن جدا ً كبيرا ً لنا نادي قبيلته بعد أن إنتهت الحرب بعد صراعاتهم الدموية في فترة ما, فصلي بجماعته وقال أن الشيطان الذي فرق بيننا قد قتلناه ودفناه ودعونا الآن نتحرك للامام. بالنسبة لي أري إننا لابد أن نحقق التسوية والعفو, واضعين في الإعتبار أن الناس لايسعون للحرب من لا شئ, ومع ذلك فإنني حين أسمع أن إمرأة حامل ما قد بقر بطنها في معمعة الصراع وتم نزع جنينها, فإنني أحزن ولا أتصور أنني أتوقع شيئاً مثل هذا الفعل من إنسان سوي وهو الذي يفعل فعلته هذه بوعيه ضد إنسان آخر, ولذا لايكون أمامك إلا أن تصغر هذا الانسان وتتركه كما الحيوان, وأذكر أيضاً إنني كنت في سريلانكا في مهمة تابعة للامم المتحدة في منطقة ريفية وجائني محام ٍ سريلانكي وجلس ليتحدث معي حول المجازر التي إرتكبت هناك , وقال لي أن هؤلاء الناس الذين قتلوا في هذه الجرائم إنما هم ليسو بشر وإنهم حيوانات ولا تستطيعون أن تتحدثوا هنا عن حقوق الانسان,وقلت له ألم تكن هناك حلول أفضل من القتل الذي تم لهم, فرد بقوله إنه لم تكن هناك حلولا ً غير القتل وإنهم كان يجب أن يقتلوا..في الواقع أن هنالك بشراً بهذه العقلية, وهؤلاء أيضاً هم البشر الذين نريد معالتجهم ومعالجة قضاياهم أيضاً.. وفي السودان نحن نعاني من هذا الفهم وهذه العقد, ولدينا أبعد من ذلك عقدة الانتماء وكثير منا يخفي عقدة اللون , فبينما نري أن العرب فاتحين, فإن كثير من الشماليين يحاولون بألوانهم المختلفة التي تتدرج من السمرة إلي الدكنة التعالي علي أخوانهم في القطر ويحاولون قسرا ً تدجينهم ضمن إطار العروبة الثقافية والتي تخفي موقفا ً حول اللون, وأذكر إن رجلا ً كان آتيا ً إلي فوجدني في الباب ذاهباً إلي السوق , فقال لي إنني أريد الذهاب معك وكان يلبس " جبة البقارة" وسلم علي بطريقة البقارة وقال لي " أظنك ما عرفتني يافلان..؟ " وقلت له ب "الطريقة" السودانية " والله شبهتك ولكن ماعرفتك" فقال لي " أنا ما ود عمك فلان ود فلان" ..والحقيقة فالرجل " طلع" من أقربائي مئة بالمئة, فاسرتهم مشت إلي الشمال وتربي هناك وأصبحت الاسرة تسلك مسلك البقارة.. وعندما كنت في السبعينات علمت أن كثير من أصول الشماليين تعود للمسترقين من قبيلة الدينكا, وعلي هذا الاساس إنقطعت وشائجهم مع الجنوب وأصبحوا مندمجين داخل إطارالثقافة العربية وربما من المتعصبين لها بل وربما من الذين صارت لهم عقدة الانتماء للاصول, هذه بعض العقد التي نحتاج لمعالجتها ونعترف أن السودانيين شعب ممتزج.هل هنالك إختلافات بين واقع السلطة في السودان وواقع السودانيين في مستوياته الإجتماعية, وهل هناك تعايش وتسامح ملحوظ في الثقافة الشعبية السودانية..؟في الواقع أن هناك تصورا ً مختلفا ً بين ما هو حادث في الخرطوم وبقية السودان, لو لحظنا أن قبائل غرب افريقيا من نيجيريا ومالي واثيوبيا تجد ان اشكالهم لاتختلف عن السودانيين وحتي موسيقاهم لا تختلف عنا بل ونجحت ثقافتنا الشعبية عبر موسيقانا في الانتشار هناك ولم تنجح السياسة الثقافية.. اسلام السلطة في السودان يختلف عن إسلام الصوفية الشعبي, هناك تعايش بين الناس وعدم تعصب في الدين والعرق , وصحيح أن القبائل تنظر لبعضها البعض باختلاف وبعض من القبائل تري نفسها انها الافضل وحتي الدينكا في ابيي يرون انفسهم انهم الدينكا ام بقية الدينكا في الجنوب فهم نوع آخر, وذات الشئ تجده في قبائل المسيرية فهؤلاء يرون انفسهم افضل من المسيرية الزرق أو الحمر وهكذا, ولكن مع ذلك نجد أن هناك تعايشا ً متينا ً بين هذه القبائل إستمر لفترات تاريخية طويلة وكان الناس يذعنون لرؤساء القبائل وبالمناسبة فان عدد الانجليز الذين حكمونا لم يتجاوز الخمسمائة وهذا العدد بسيط بالمقارنة بعدد الحكام الان, وكانوا يتركون السلطة لدي زعماء العشائر, ومعظم الوقت لم نكن نري المفتش الانجليزي وربما نراه في السنة مرة واحدة وبالاكثر مرتين, بينما يمسك بزمام الامور هؤلاء الزعماء ولوكنا بنينا السودان علي الاسس الموجودة ما بعد الاستقلال لاختلف الامر ولانصهرت الاختلافات ووجدت حلولها, ولكن حكام الخرطوم جاءوا بتصورات سياسية من مصر والشرق الاوسط وأدت إلي تزايد الخلافات بين السودانيين. مثلا نجد في بيئة البقارة إنهم يرقصون كما الافارقة وهناك الاختلاط بين المرأة والرجل والدين نفسه متسامح, كل هذه الاشياء حرفت برؤية ضيقة للقطر سواء كانت دينية ام عرقية وطبقت علي هذا المزيج القبلي..بروفيسور فرانسيس, نود أن نسألك بعد كل هذا عن رؤيتك الشخصية حول الثقافة العربية عموما ً والإسلام خصوصاً , وحول مإذا كانت الثقافتان نماذج إيجابية للإهتداء, ولماذاً يحاول الجنوبيون التعمق فيها كثقافة بعيدا ً عن الحمولات العرقية والدينية ـــ إن كان هذا ممكنا ..؟لاشك أن الثقافة العربية هي عالمية وقوية التأثير , كما أن اللغة العربية جميلة ..وعموما ً نجد في الناحية الثقافية وكذلك في سلوك الناس ميزات رائعة جدا ً ومحترمة سواء في العالم العربي أو شمال السودان, إنما العيب هو أنه تخلقت للجنوبيين عقدا ً ضد العروبة لانها أستخدمت في الصراع ضدهم وكمصدر للسيطرةالثقافية والدينية, والناس عموما ً كما تعرفون يتعاملون بردة الفعل, ودائما ً ما أقول إنني لو كنت مسلما ً أو إسلامياً وأردت نشر الاسلام في جنوب السودان وأفريقيا, فإنني سأكون في وضع يجعلني إستطيع فيه خلق المناخ الايجابي الذي يتيح للصفات الاسلامية الجميلة أن تبرز وبالتالي يراها الناس ومن ثم يقتنعون بإنها النموذج الجيد للتطبيق, وكما قلت سابقاً أن أبي معجب بالثقافة العربية وأسواق العرب في أبيي وكان ينظر لهذه الثقافة كنموذج للاتباع, ولكن عندما يري الجنوبيون أن الامر مختلق وكأن الثقافة هي مسألة للاستعلاء ويتم فرضها بقوة المؤسسات فإن مقاومتهم ستكون أكيدة ضدها.. وأذكر أن عائلتنا تضم عددا ً من المسلمين وبيننا يوجد "أخوان مسلمون" أيضاً وغيروا أسمائهم للعربية حتي , فهؤلاء عندما يرون مع مسلمو الجنوب أن الثقافة العربية والاسلام أصبحا جزء ً من السيطرة السياسية فإنهم يبتعدون عنها.. وبهذه المناسبة تحضرني قصة طريفة فحواها أنه كان هناك زعيماً من الدينكا, ويعتقد أن لدي قبيلته إتصالا ً مع العالم وكذلك مع الله, وكان هذا الزعيم مقربا ً لجدنا الكبير والذي كان بدوره من المقربين للعرب ويتحدث العربية. هذا الزعيم الديني فشل في تعلم العربية وبدأ كما يقول هو في نقاش مع الله الذي سأله بقوله: لماذا يا إلهي لاتدعني أتحدث العربية , أوليست هي لغة للتخاطب..؟ فقال له الإله: لا..لا أريدك أن تتحدث العربية ..وسأل الإله مرة ثانية ..لماذا يا إلهي..؟ فرد الإله : إنني لو تركت تتحدث العربية فمنذ اللحظة الاولي ستكون رجل سيئ..إذن هذه عقدة جنوبية للمقاومة.. أنا في تقديري أن الانجليز لو لم يسعو إلي تجزأة القطر وتركوا إمكانية للاندماج بين الجنوب والشمال لأمكن لنا التوحد ولأصبحنا مثل موريتانيا الموحدة باللغة والاسلام رغم أن هناك قبائل في جنوبها تتحدث بلغاتها.. وكان يمكن للجنوبيين أن يتحدثوا اللغة العربية بطريقة أفضل مما يتحدث الافارقة الفرنسية والانجليزية, وكان يمكن أن يكون لدينا أدبا ً جنوبيا ً مكتوباً بالعربية, وكان يمكن للعربية أن تثري بحس الجنوبيين, ولكن الظروف جعلتنا أن نكون أمتين في قطر واحد,, ولذلك نحتاج إلي التوازن, علي الاقل في المرحلة الاولي من السلام.يقول كثير من المحللين في الشمال أن مشكلة الجنوب لم تكن لأسباب عرقية أو ثقافية أو دينية أو نتاج نظرة دونية يبذلها الشماليون تجاه الجنوبيين, ودليلهم علي ذلك أن السلطة المركزية تصارع الآن التمرد الحادث في دارفور والشرق رغم عناصر الثقافة العربية والإسلام والمصاهرات التي تربط هذه الأجزاء من القطر هذا بخلاف الخلافات السياسية العميقة بين السلطة والنخب السياسية في اليمين واليسار تاريخيا ً, مما يعني ذلك أيضاً ــ كما يقول هؤلاء المحللون ــ أن سلام نيفاشا سيفشل لطالما أن التسوية السياسية الحقيقية بين هذه التيارات لم تنجز وأن المشكلة السودانية لم تحل إجمالا ً..؟نحن في السودان لدينا القدرة علي التنكر, بعض منا يقول أن جذور المشكلة غير عرقية أو دينية, وإنما إقتصادية .. ويدللون أنه كما كان هناك مسيحيون ومسلمون في الجنوب فالشمال أيضا ً فيه مسيحيين ومسلمين وكما كان هناك عرباً في الشمال فهناك العنصر الأفريقي أيضاً وكما هناك مناطق متخلفة في الجنوب فهناك مناطق متخلفة أكثر في الشمال, وربما يكون كل هذا صحيحاً.. ولكن أيضاً نري أن المشكلة ثقافية ودينية, فبولاد الذي كان إسلامياً متعصبا ً وجد فجأة أن زملاء له ينظرون إليه برؤية إنه أدني عرقيا ًوليس مؤهلا ً كعربي أن يجد حظه من التوظيف والتنمية وقاد حركة تمرد دارفور الاولي وقتل.. ومرة قلت للرئيس النميري بعد أن عدت من إجتماع لوزراء الخارجية الافارقة لاعطيه تقريرا ًعن ذلك الاجتماع الذي عقد بعد إتفاقية أديس أبابا ــ قلت له أن الوزراء الافارقة الذين سألتهم عن إنطباعهم عن السياسة السودانية تجاه أفريقيا قالوا لي أنهم لايرون " أي حاجة أفريقية طلعت بعد الاتفاقية في سياسة السودان الخارجية.." وبالاجماع أكدوا ذلك وكان من ضمن الدول المشاركة في الاجنماع نيجيريا وغانا وليبريا وقامبيا وكينيا وأضافوا ان السودان بلد أفريقي ويريد أن ينجح كبلد عربي حتي ينال رضا العرب..نميري قال لي" يافرانسيس الكلام ده ما صاح.." وقلت له " الحقيقة ياريس إنو بعد ما جيت بعد الاتفاقية وعدلت الامور وكده برضو كنا نفتخر بعروبتنا اكثر من أفريقيتنا وكان إنتماؤنا يتم للعالم العربي أكثر.." غير أن النميري وبطريقته المعهودة قال لي "..شوف نحنا عارفين نظرة العرب لينا شنو.. لامن نمش لإجتماعات الملوك والرؤساء أنا بشوف الطريقة البنظرو بيها لي.. وبالتأكيد هي نظرة إني ما زيهم وبنظرو لي زي أفريقي وكده.. وطريقتهم دي عارفة وما بحبها , لكن يا فرانسيس الناس ديل بنحتاج ليهم دلوقتي وخلينا نطلع بترولنا في السودان.. ونحنا السودانيين معروفين ايادينا مفكوكة وبنحب الكرم وكده.. وأخوانا الافارقة ديل لامن نحنا نطلع بترولنا نديهم كتير ونحرر نفسنا من الهيمنة العربية.."..علي كل نحن نتنكر للاشياء .. ولا أدري كيف نتخلي عن هذا التنكر..؟ وصحيحا ً أن ذلك لايحدث بسرعة ولكن المزيد من الحديث عن هذه القضايا يعطينا المزيد من الفرص لحلها..كما أن قادتنا يجب أن يكونوا صريحيين في مثل هذه الامور.. وأذكر أن الترابي حين جاء هنا إلي واشنطون قال كلاما ً كثيرا ً في هذا الجانب, ومن ضمن ما قال أن العروبة لو أصبحت شيئا َ موصولا ً بالعرقية فإنه شخصيا ً لايريدها, وقال أن الاسلام نفسه لو أصبح مرتبطا ً بالعروبة فقط لبقي بلا إنتشار.. وحكي لي إنهم لأول مرة يقومون بتقريب السودان نحو أفريقيا, وطبعا ً جماعة الترابي فعلوا هذا الامر للوصول إلي المسلمين فقط في أفريقيا, وهذا أيضا ً طريق ضيق لمحاولة الوصول لمصلحة دينية ولم تكن بغرض آداء دور سوداني نحو أفريقيا.د.فرانسيس, الانفصال لم يبق حلم كثير من الجنوبيين فحسب وإنما هنالك إتجاهات في الشمال مؤسسة سياسيا ً ولديها قدرةات وإمكانيات إعلامية وتنادي بالانفصال, إن لم يكن اليوم فبعد إنتهاء مدة الفترة الإنتقالية , كيف تثمن مثل هذه الاتجاهات الشمالية الإنفصالية, وهل هي نتاج ضيم شمالي من الجنوبيين لايقل عن ضيم الجنوبيين تجاه الشمال..؟الانفصال ما عاد شيئا ً مثل النظرية التي هي محل جدل .. إن الإتفاقية ستعطي الجنوبيين الفرصة للتصويت بعد خمسة أعوام من الآن, وإفتراضي المتأمل هو إن الوحدة ممكنة , وأقول المتأمل لأنني لا أشارك تماماً كثيرا ً من الجنوبيين في رؤاهم المحبطة, .. أعود وأقول أن الجنوبيون يعيشون الإحباط الآن لأن كل الاقاليم ثائرة ضد المركز وأن ظلم السنين الذي أدي للحرب ما يزال جاثما ًولذلك فهم إذا ما صوتوا اليوم فإنهم بكل الاحتمالات سيصوتون للانفصال بسبب هذا الإحباط, ولقد تحدث سلفاكير مع البشير حول مسألة وزارة النفط والتي يعتبرونها حيوية لمستقبلهم وقال للبشير إنه كيف يتم أخذ الوزارة من الجنوبيين, مما يرسل ذلك إشارات سالبة للوحدة الجاذبة, لكن البشير قال له إن الجنوبيون سيصوتون للإنفصال إذا أخذوا وزارة الطاقة أو لم يأخذوها .. ربيكا أيضا ً تعتقد أن الامور لو سارت علي هذا النحو فإن الجنوبيون سيصوتون للانفصال.. أنا لم إستسلم بعد, وأعتقد أن الفرصة أمامنا كبيرة لإحداث نقلة حقيقية في مشروع السلام, ولدي إعتقادأ ً كبيرا ً, أيضا ً, أن السودان سوف يتحول للسودان الجديد سواء بإنفصال الجنوب أم بعدم إنفصاله..لو إنفصل الجنوب ..هل تعتقد للأحسن أم للاسوأ..؟أتمني أن يكون للأحسن, فالواقع الآن هو أن كل السودانيين المختلفيين في الشمال والغرب والشرق وجبال النوبة سيسعون لتحقيق التسوية في حال إنفصال الجنوب, وأتصور لو أن الإنفصال قد حدث فعلا ً, فربما سيكون هناك تقاربا ً جديدا ً بين الشمال والجنوب, وكما قلت من قبل في ورقة " نظامين في دولة واحدة " أن الكونفدرالية ستكون الحل للحرب, بل وربما يسعي الشماليون والجنوبيون لانجاز إتفاق للتعاون ربما سيكون أفضل من الكونفدرالية, أقول هذا والمبدأ الذي اسعي إليه أن تكون هناك وحدة بين الشمال والجنوب..بل وتكون هذه الوحدة نموذجا ً في المنطقة بأسرها.وماذا عن المصريين ..والانفصال..؟كنت أقول دائما ً للمصريين إنهم إن أرادوا خدمة السودان ووحدته فإنه يجب عليهم أن لا يتنكروا لحق الجنوبيين بأن يشعروا الشماليين وكأن أي شئ يفعلونه في السودان يجد الغفران عندهم.. قلت لهم لا بد أن يكونوا محايدين في الصراع ويساعدوا علي حله حتي يضمنوا للسودان الوحدة.. ولكن يبدوا أن المصريون والعرب لم يشعروا بمظالم الجنوبيين ولم يكن تدخلهم من أجل النظرة لتحقيق العدالة في القضية السودانية .. وأعتقد أن العرب والمسلمون لو نظروا لقضية الجنوب بعدالة لما حدث ما حدث الآن....