تشيخوف.. مرة أخرى:مسرح الإنقاذ.. وقطار السابعة والنصف
أثناء بحثي عن قصة تشيخوف عن الصياد والدب، والتي أشرت إليها في مقال نشر قبل أيام، أعدت قراءة كل ما توفر لدي من قصص تشيخوف القصيرة، واكتشفت مرة أخرى معنى أن الأدب العظيم هو ذلك الذي يكتب نفسه من جديد كل مرة تقرأه. تماماً كما قيل إنك لا تعبر النهر مرتين، فأنت لا تقرأ الأدب العظيم مرتين، ولا تشاهد اللوحة الجميلة مرتين، ولا تستمع إلى الموسيقى العذبة مرتين. أعترف بأنني حينما كنت أبحث عن تلك القصة، كان ذهني مشغولاً بالمقارنة المذهلة والفاضحة بين مدلولاتها وبين التنازلات التي ما فتأت حركتنا السياسية تقدمها للإسلاميين. ولربما كانت تلك المشغولية هي التي جعلت من كل قصة أقرأها لتشيخوف عدسة أنظر عبرها إلى الإنقاذ والتحولات العميقة التي أحدثتها في المجتمع السوداني وحركاته السياسية، ولكن مهما كان حجم تلك العدسة، فلو لم يك تشيخوف على ذلك القدر من الإبداع، لكنت عدت بخفي حنين.
في قصة قصيرة بعنوان (الكبش والآنسة) يحكي تشيخوف عن ذلك السيد الشبعان اللامع صاحب القصر المنيف، الذي استيقظ بعد الظهيرة، لا يدري ماذا يفعل وبماذا يسلي نفسه ويملأ الوقت الطويل قبل الذهاب مساءً إلى المسرح، لقد مل القراءة منذ عهد سحيق، ولا رغبة له في التثاؤب أو التفكير، والكسل الشديد يحول بينه وبين الذهاب إلى التزلج. وبينما هو كذلك، يخبره الخادم بأن آنسة ما تود مقابلته، فيأذن لها بالدخول دون أن يعرف من هي، إذ أن الأمر لديه سيان.
تدخل فتاة جميلة، تبدو البساطة ورقة الحال على ملابسها، وتعتذر عن حضورها على غير موعد، فيطلب منها أن تشرح ما الذي أتى بها، بينما يأمر الخادم أن يعد لها شاياً. مرتبكة، تبدأ الآنسة في شرح حاجتها، (لقد سمعت أنهم يعطون بطاقات سفر مجانية بالقطار، وأنا أحتاج إلى بطاقة من بطرسبورج إلى كورسك، فأنا لست غنية). يبدي السيد اهتمامه بالأمر، فيسأل عن أسباب سفرها إلى كورسك، فتجيب بأنها تود أن ترى أهلها الذين تفتقدهم منذ فترة طويلة وأن تعاود والدتها التي علمت مؤخراً بأنها مريضة. ويظهر السيد تعاطفاً معها فيستطرد في الأسئلة، هل هي طالبة أم موظفة وكم هو مرتبها، ويعلق بأن مرتبها حقاً ليس كبيراً وأنه ليس من الإنصاف ألا يعطوها بطاقة مجانية، ثم ينتقل في مودة شديدة للتعرف على تفاصيل حياتها فيسألها إن كان لها حبيب أو خطيب في كورسك، فقد حان الوقت كي تتزوج، ثم يحول مجرى الحديث ببراعة إلى كورسك ويسألها عن نوعية الحياة فيها (والتي لا بد أن تكون مملة)... إلخ. وبما أن الآنسة لم تك تتوقع هذا الاستقبال الرقيق وهذا الاهتمام الفائق، فقد اندفعت في الحديث، واصفة للسيد كل أنواع ومسليات الحياة في كورسك، ثم تطرقت إلى أهلها، إخوتها وأعمامها وغيرهم، حتى أنه حينما استفسر عن ملامح خطيبها وما إذا كان وسيماً، أسرت له بكل الخطاب الذين تقدموا لها في بطرسبورج، ثم أخرجت رسالة من والدها لها وبدأت في قراءتها عليه. وبينما هي تتلو الرسالة عليه، دقت الساعة معلنة الثامنة مساءً، فنهض السيد على الفور وودعها قائلاً (لقد حان موعد انصرافي، لابد أن المسرح قد بدأ عرضه)، وهنا تسأله الآنسة عما إذا كان سيرسل إليها البطاقة، فيجيبها كأنما هو يسمع الموضوع لأول مرة (بطاقة؟.. أي بطاقة؟.. آه.. لا بد أنك قد أخطأت المدخل، آنستي، فموظف السكك الحديدية يسكن بالقرب مني، أما أنا فأعمل في بنك) وبينما يهم خارجاً يودعها متمنياً لها حظاً سعيداً، ويطلب من الخادم أن يعد لها العربة. تهرع الآنسة للمدخل الآخر وحينما طلبت أن تقابل صاحب المنزل، قيل لها إنه سافر إلى موسكو في السابعة والنصف.
يستعرض تشيخوف كيف يمكن للسلطة والثروة أن تتيحا لشخص ألا يعبأ مطلقاً بشقاء وعذاب وحاجة الآخرين، ليس ذلك فحسب، بل كيف يمكن لمثل ذلك الشخص أن يستغل عذابات الآخرين وحاجتهم مادة للهو والتسلية وتزجية وقت الفراغ. ذلك من ناحية، أما من الناحية الأخرى، فإن تشيخوف يصور لنا في جملتين صغيرتين مذهلتين وبوضوح مكثف كيف أن (المدخل الخطأ) يؤدي، ليس فقط إلى ضياع الوقت، وإنما إلى ضياع القضية ذاتها.
وأنا أعيد قراءة (الكبش والآنسة) قفزت إلى ذهني، ضمن صور عديدة، صورة السادة المناضلين قادة المعارضة، أعضاء المجلس الوطني الآن، وهم يبثون شكاوى وعذابات مواطنيهم وجماهيرهم إلى الإنقاذ. أراهم يشرحون لها حاجة أولئك المواطنين البسطاء والجماهير المسحوقة لبطاقات الأمان وبطاقات العيش الآدمي الكريم وبطاقات المدارس وبطاقات العلاج وبطاقات الكرامة الإنسانية وكل بطاقات حقوق الإنسان السياسية والمدنية الاقتصادية والاجتماعية وبطاقات السكك الحديدية. وأرى الإنقاذ تضع ساقاً على ساق، وهي تتصنع الاستماع باهتمام عميق، يأتي الوزراء للاستجواب وهم يبتسمون، وتأتي الأوامر الرئاسية وهي تتبختر، وتدور ثرثرة ومماحكة، وبين الحين والآخر يثور جدل عنيف، ثم يطلب الشاي والمرطبات للجميع من أجل تلطيف الأجواء. وفي حالات تبدي السلطة تعاطفها مع مطالب (المعارضة) الشرعية، وتعترف بأنه من حق المواطنين والجماهير أن يحصلوا على تلك البطاقات أو بعضها. وبينما ينتظر السادة المناضلون الأماجد تلبية مطالبهم، وبينما ينقل الصحافيون وأجهزة الإعلام الممارسة الديمقراطية العظيمة، تظل الإنقاذ تفكر في (الساعة الثامنة) وتخطط لمواعيد (المسرح) الحقيقي حيث تدور وتحسم المعارك، بالطائرات والمدرعات وصهوات خيول الجنجويد، وبالاغتصاب والاغتيال والاعتقال والتعذيب.
قرأت في اليومين الماضيين أن أولئك المناضلين الأماجد يفكرون الآن في الانسحاب من المجلس الوطني. لا أدري إذا ما كانوا قد اكتشفوا أنهم قد ولجوا عبر (المدخل الخطأ) أم لا، أو إذا كانوا قد استبانوا أن القصر المنيف ليس هو المكان الصحيح لطرح قضاياهم ومناقشتها والعمل من أجل تحقيقها، ولكن ما آمله حقاً هو ألا يكون (قطار السابعة والنصف إلى موسكو) قد غادر قبل أن يتخذوا قرارهم. محمد سليمان
0 Comments:
Post a Comment
<< Home