ثورة المحافظين الجدد:المثقفوت اليهود وتشكيل السياسة العامة بقلم علاء بيومي
ثورة المحافظين الجدد: المثقفون اليهود وتشكيل السياسة العامة
بقلم: علاء بيومي الناشر: الجزيرة نت، 17 أكتوبر 2005،
حقوق الطبع والنشر محفوظة للناشر
نص العرض
من الصعب على أي عرض – مهما بلغت كفاءته - أن يغني القارئ الجاد المهتم بفهم خصائص ونفوذ تيار المحافظين الجدد عن قراءة كتاب "ثورة المحافظين الجدد: المثقفون اليهود وتشكيل السياسة العامة" الصادر في مايو الماضي عن مطابع جامعة كامبريدج العريقة للناشط والمؤرخ اليهودي الأمريكي موري فريدمان
فالكتاب يختلف كثيرا عن غالبية الكتب المطروحة بالأسواق الأمريكية عن المحافظين الجدد، وذلك لعدة أسباب، أولها أن مؤلف الكتاب – كما يذكر في مقدمة دراسته – متعاطف مع أفكار المحافظين الجدد مما يجعله مدفوعا لشرح أفكارهم وتاريخهم وتأثيرهم وإيضاحه كل ما سبق للقارئ بعكس الكتابات الأخرى الناقدة للمحافظين الجدد والتي تنشغل بالنقد عن الفهم والشرح والتحليل
السبب الثاني هو انتماء الكتاب لفئة المؤلفات المعنية بتتبع تاريخ الأفكار وتاريخ الحركات الفكرية والسياسية، فالكتاب يقدم المحافظين الجدد كحركة فكرية وسياسية ذات بصمة متميزة بدأت تتطور في أمريكا على مدى النصف الثاني من القرن العشرين تطورا بطيئا هادئا متشابكا مع مختلف التطورات التي مر بها المجتمع الأمريكي عبر تلك العقود
لذا يخرج بنا الكتاب عن حيز الكتب المشغولة بالكشف عن مؤامرة المحافظين الجدد والتي تحكي في غالبيتها قصة مجموعة (عصابة) صغيرة غامضة من المحافظين الجدد الأشرار الساعين لاختطاف سياسية الرئيس جورج دبليو بوش الخارجية من الداخل
ثالثا: في مقابل الرؤية السابقة يتحدث الكتاب عن تيار المحافظين الجدد كتيار يضم عشرات - وإن لم يكن مئات – المفكرين والمطبوعات والسياسيين المترابطين مع مختلف فئات وطبقات وأفكار المجتمع الأمريكي والذين تحولوا إلى أفكار المحافظين الجدد تحولا طبيعيا نتيجة لأفكارهم وللظروف التي مر بها المجتمع الأمريكي خلال القرن العشرين والتحدي الذي مثلته تلك الظروف لعقائدهم الفكرية
فالكتاب يشعرك بأن أفكار المحافظين الجدد منتشرة في أوساط أعداد كبيرة من الأمريكيين لارتباطها بأفكار وسياسات أمريكية مركزية يصعب على أي قارئ رفضها كلها
ومن ثم يجد القارئ نفسه - خلال قراءة هذا الكتاب – أمام سيل من الأفكار والشخصيات والأحداث والظروف المترابطة مع تيار المحافظين الجدد بشكل يجعل من قراءة الكتاب من الغلاف إلى الغلاف ضرورة لكي يتمكن القارئ من الوعي بالتفاصيل العديدة والهامة لقصة صعود المحافظين الجدد بالولايات المتحدة
صراع على اليهود الأمريكيين
نقطة انطلاق الكتاب هي نظرة المؤلف إلى تيار المحافظين الجدد على أنه صراع بين اليهود الليبراليين واليهود المحافظين على السيطرة على وجهة يهود أمريكا الأيدلوجية، لذا يبرز فريدمان في مقدمة كتابه حقيقة أن غالبية اليهود الأمريكيين ديمقراطيين ليبراليين، كما يبرز في المقابل حقيقة أن غالبية قيادات المحافظين الجدد هم من اليهود، ويتساءل حول مغزى ذلك على المستقبل الأيدلوجي لليهود الأمريكيين
وهنا يعبر فريدمان عن اعتقاده بأن التيار الليبرالي هو تيار دخيل نسبيا على اليهود الأمريكيين، فهو يرى أن غالبية اليهود الأمريكيين كانوا محافظين حتى عشرينات القرن الماضي، وأن أول رئيس ديمقراطي يحصل على غالبية أصوات يهود أمريكا كان ويدرو ويلسون في عام 1916، لذا يتهم فريدمان الباحثين الأمريكيين بإهمال دراسة تاريخ الحركات اليمينية بشكل عام وتاريخ المحافظين اليهود بشكل خاص، حيث يرى فريدمان عبر كتابه أن هذا الإهمال نابع من سيطرة النخب الليبرالية على مؤسسات الفكر والثقافة في أمريكا خلال العقود الأخيرة مما أضعف من قدرة هذه المؤسسات على تتبع تطور الفكر اليميني وحركته السياسية داخل المجتمع الأمريكي
ويقول فريدمان أن هجرة اليهود الأمريكيين إلى الليبرالية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين جاء نتاجا لتغيرات مجتمعية كبيرة مثل الكساد الكبير الذي أشعر المجتمع الأمريكي عامة والمهاجرين اليهود خاصة بفشل الرأسمالية والسوق الحر والحاجة لتدخل الدولة، وحاجة اليهود الأمريكيين للاندماج في المجتمع الأمريكي حتى ولو جاء ذلك على حساب هويتهم الدينية مما جعلهم ينادون بالعلمانية ويهملون هويتهم اليهودية، هذا إضافة إلى صعود المفكرين والمثقفين اليهود بعد الحرب العالمية الثانية التي أعطتهم فرصة أكبر للاندماج في المجتمع الأمريكي خاصة بعد هجرة عدد من أكبر مفكري وعلماء يهود ألمانيا وأوربا للولايات المتحدة، حتى أصبحت نيويورك - مركز تجمع اليهود بأمريكا - عاصمة أمريكا والعالم الثقافية
ويقول فريدمان أن نجاح اليهود الفكري والثقافي وعدم اندماجهم الكامل في المجتمع جعل منهم أقلية ثقافية متميزة خارج الأقلية البيضاء البروتستانتينية المسيطرة على مقاليد الثروة والحكم في أمريكا، وهو أمر زاد من اغتراب اليهود الأمريكيين عن الهوية اليهودية سعيا نحو الاندماج في المجتمع الأمريكي، مما جعلهم في النهاية من قادة التحول نحو الليبرالية العلمانية في الولايات المتحدة خاصة مع خشية اليهود من صعود اليمين في الولايات المتحدة بعد تجربتهم المريرة مع اليمين الأوربي
بداية التحول نحو اليمين
ولكن كيف أمكن لبعض اليهود – في مثل هذه الظروف – التحول نحو اليمين؟ يقول فريدمان في هذا الأمر أن البداية كانت في الثلاثينات من القرن العشرين مع صعود التيارات اليهودية المعادية للشيوعية، حيث يرى فريدمان أن مساعي اليهود نحو الاندماج بأمريكا دفعت بعضهم لرفض اغتراب المهاجرين اليهود عن أمريكا ومطالبتهم بمزيد من الاندماج وتقدير أمريكا وتقدير الحياة بها ورفض التقدير الذي تحمله بعض الفئات اليهودية للشيوعية وللاتحاد السوفيتي
فمجلة كومنتاري التي بدأت في الصدور عام 1945 عن اللجنة اليهودية الأمريكية سعت إلى ربط المثقفين اليهود ببعضهم البعض، وطالبت المهاجرين اليهود بالتركيز على مزايا أمريكا والتوقف عن النظر لأمريكا على أنها منفى، حتى أن كومنتاري – كما يرى فريدمان – لم تنتقد جوزيف مكارثي بشكل كافي
كما طالب مفكر مثل ليو ستراوس - والذي هاجر من ألمانيا هروبا من النازية وأستقر في أمريكا – إلى التركيز على التراث الغرب والمسيحي ورفض الجماعات الغربية المعادية للحضارة الغربية، كما دعا لبناء أمريكا كقوة عالمية كبرى تحارب الشر في العالم
ولكن موري فريدمان يرى أن إرهاصات الحركات المحافظة في أوساط اليهود الأمريكيين قبل خمسينات القرن العشرين لم تكن قوية بما يكفي، فقد كانت ضعيفة ومنعزلة عن التيارات الفكرية السائدة بالمجتمع الأمريكي بشكل عام وداخل اليهود الأمريكيين بشكل خاص
فترة التحولات الكبرى
في المقابل ساعدت الحركات الفكرية والسياسية الكبرى التي مر بها المجتمع الأمريكي خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين على تشكيل بيئة خصبة لنمو أفكار المحافظين الجدد وتبلور تيارهم الفكري والسياسي، ومن أهم هذه التحولات ما يلي
أولا: صعود اليسار الأمريكي الجديد ونقده اللاذع لأمريكا وللحياة الأمريكية وثورته على المؤسسات التقليدية بالمجتمع الأمريكي، وهو أمر رفضه المحافظون الجدد حيث رأوا أن رفض اليسار الجديد لأمريكا هو موقف مبالغ فيه كما أنه يقوض المؤسسات التقليدية بالمجتمع الأمريكي مما يضعف الروابط والضوابط الاجتماعية والثقافية داخله
وهنا يرى فريدمان أن معاداة المحافظين الجدد لثقافة اليسار الأمريكي الجديد ومواقفه الاجتماعية والأخلاقية كانت نقطة تلاقي واضحة وهامة بين المحافظين الجدد والجماعات اليمينية المحافظة، وإن كان هذا التقارب لم يحدث سريعا بل وقع بمعدلات بطيئة وعلى فترة زمنية طويلة نظرا للشكوك والمخاوف العديدة التي امتلكها كل طرف تجاه الأخر
ثانيا: مع أوائل الخمسينات زاد إيمان الجيل الأول من المحافظين الجدد بمشاكل الشيوعية والإتحاد السوفيتي كما برزت في وحشية ستالين في التعامل مع الأقليات الدينية بالإتحاد السوفيتي بما في ذلك اليهود السوفيت، وتصعيد الاتحاد السوفيتي لصراعه مع الغرب، مما دفع المحافظون الجدد للربط بين الشيوعية والنازية
وهنا يرى فريدمان أن تصاعد الحرب الباردة ساهم بشكل مباشر في نمو وتقوية تيار المحافظين الجدد، وذلك لأن العداء للشيوعية ورفض تقارب اليسار الأمريكي منها كان يعد بمثابة أحد ركائز فكر المحافظين الجدد، ومع استمرار الحرب الباردة زاد شعور المحافظين الجدد برفض الشيوعية والاتحاد السوفيتي وزاد شعورهم بالسلبية تجاه موقف النخب الليبرالية الأمريكية المتعاطفة مع الاتحاد السوفيتي والرافضة لتصعيد الحرب الباردة، وزادت رغبتهم في البحث عن حلفاء أمريكيين جدد أكثر رغبة في مواجهة الخطر الشيوعي
ثالثا: هزيمة اليمين الأمريكي التقليدي خلال سلسلة انتخابات فيدرالية عبر الخمسينات وأوائل الستينات وظهور جيل جديد من الناشطين المحافظين وعلى رأسهم ويليام بكلي مؤسس ومحرر مجلة ناشيونال ريفيو، وهو جيل رفض الجماعات اليمينية العنصرية وسعى لتطوير الخطاب الرأسمالي الأمريكي وتحديثه بشكل قرب بين المحافظين الجدد واليمين الأمريكي الجديد مع دخول السبعينات
رابعا: ظهور ونمو المحافظين الجدد أنفسهم بمفكريهم ومطبوعاتهم وكتبهم وعلى رأسهم إيرفينج كريستول والذي يوصف بأنه الرب الروحي للمحافظين الجدد وبول بودهوريتز محرر مجلة كومنتاري والسيناتور هنري مونيهان، وغيرهم
وهنا يرى المؤلف أن الصحافة الأمريكية والمؤرخين الأمريكيين لم يركزا بدرجة كافية على نمو التيار الأمريكي المحافظ داخل الجامعات والمؤسسات الفكرية الأمريكية، حيث يرى موري فريدمان أن بداية من منتصف الستينات بدأ اليمين الأمريكي المعدل والمحافظين الجدد في بناء شبكة واسعة من الجماعات الفكرية النشطة بالجامعات والمؤسسات البحثية الأمريكية
خامسا: امتلك المحافظون الجدد فلسفة اقتصادية واجتماعية متميزة ساعدتهم على التقرب من اليمين الأمريكي على المستويات الاقتصادية والحقوقية والابتعاد عن اليسار على نفس المستويات، إذ رفض المحافظون الجدد عداء اليمين التقليدي للدولة ولكنهم رفضوا في نفس الوقت تدخل الدولة في الاقتصاد وفي برامج محاربة الفقر ودعم الفقراء ومكافحة التمييز، إذ رأي المحافظون الجدد أن مثل هذه البرامج يجب أن تكون مسئولية المجتمع ومسئولية النظام الرأسمالي الذي أيده المحافظون الجدد مبدين تقديرهم لمهارة وإبداع رجال الأعمال
الديمقراطي تركهم وعثروا على ريجان
يقول موري فريدمان أن عوامل الشد والجذب السابقة استمرت على مدى الخمسينات والستينات، وخلال هذه الفترة نظر غالبية المحافظين الجدد لأنفسهم على أنهم ليبراليون وإن لم يكن ديمقراطيين، وخلال السبعينات بدأت علاقة الحزب الديمقراطي واليسار الأمريكي بالمحافظين الأمريكيين تزداد توترا حتى انقطعت صلة الطرفين خلال حكم جيمي كارتر والذي تبنى أجندة اليسار الجديد وعارض فكرة التصعيد ضد السوفيت ورفض مطالب المحافظين الجدد بتوظيف بعضهم في إدارته
لذا شعر المحافظون الجدد بأن الحزب الديمقراطي تركتهم، بل شعروا بأن اليسار الأمريكي الجديد يسير بالليبرالية الأمريكية في الطريق الخطأ، لذا عندما عثر المحافظون الجدد على ريجان والذي أمن بفكرة التصعيد ضد السوفيت ورفض نقد اليسار لأمريكا على المستوى الثقافي، لم يجد المحافظون الجدد صعوبة تذكر في مساندته والتصويت له والعمل في إدارته التي فتحت أبوابها أمامهم
وبهذا نكون قد وصلنا لمرحلة تبلور المحافظين الجدد كتيار فكري سياسي ترك بصمة على الجدل السياسي الأمريكي العام، وهي بصمة حرص موري فريدمان على شرحها وشرح جذورها ومعانيها وعلاقتها بالتطورات التي مر بها المجتمع الأمريكي خلال القرن الماضي لدرجة شغلت فريدمان عن الاهتمام بدرجة كافية بشرح نفوذ المحافظين الجدد داخل حكومة جورج دبليو بوش وعلى سياسة أمريكا الخارجية في الفترة الحالية
0 Comments:
Post a Comment
<< Home