للتاريخ: استقالة الراحل الخاتم عدلان و رفاقه من الحزب الشيوعي السوداني
رؤية فكرية و سياسية جديدة
فعالية سياسية ديمقراطية واسعة
أدوات نضالية حاسمة•
نعلن نحن، الموقعون أدناه استقالتنا عن الحزب الشيوعي السوداني لتصبح سارية منذ هذه اللحظة. لقد عرفنا بالإنتماء إلى الحزب الشويعي السوداني طوال العقود الثلاثة الماضية و اخترناه مهدا و منفذا لفعالياتنا الفكرية و السياسية و الإجتماعية، و بذلنا من أجل إبلاغ رسالته، و بسط رؤاه و التبشير ببرامجه، و توسيع نفوذه، و تنفيذ سياساته كل ما توفر لدينا من طاقة ذهنية و جسدية و قد أخذ هذا الإنتماء منا بجماع العقول و شغاف الأفئدة و خالط من العصب و النخاع و لم نكن في كل ذلك نتوخى مصلحة شخصية أو منفعة خاصة و لم نتخذ الحزب مطية لأهداف نتطلع إليها• انتمينا إلى الحزب الشيوعي السوداني لأننا رأينا في مشروعه النظري-الماركسية اللينينية-تفسيرا عميقا لظواهر الكون و الفكر و المجتمع و رأينا في برنامجه السياسي حلولا لقضايا شعبنا و رأينا في بنيته التنظيمية و أساليبه العملية أداة مناسبة لتقديم مساهماتنا المتواضعة في خدمة شعبنا و لذلك كان انتماؤنا إليه عميقا و كاملا.• و لكننا نعود اليوم، لنعلن بوضوح كامل أمام النفس و أمام الآخرين أن الحزب لم يعد يمثل لدينا شيئا من ذلك. و لذلك نتركه، كما دخلناه، بصدق كامل مع الذات. و نفعل ذلك دون ندامة، و لكن ليس دون حزن. و هذا على كل حال يخصنا وحدنا. إننا لا نريد أن نوحي، لا من قريب و لا من بعيد أننا كنا ضحايا خداع نظري أو سياسي، بل يتعلق الأمر بظاهرة مفهومة في إطار الفكر و الوجودج الإجتماعيين، و هي فقدان نظرية إجتماعية ما لحقيقيتها من خلال تغيرات الواقع الذي كانت تعبر عنه، و عجز حزب من الأحزاب عن الإستجابة لتحديات أكبر منه.• إننا لا نستطع في هذا الحيز المحدود، و في هذه المناسبة الإعلانية أن نوضح أسبابنا للإستقالة من الحزب الشيوعي السوداني، بدرجة كافية من التفصيل، و لكننا سنكتفي بالإشارة إليها بإقتضاب، على أن نعود للخوض فيها تفصيلا في كتاباتنا و مخاطباتنا و منشوراتنا القادمة. و نطرح ذلك على مستويين: مستوى النظرية الماركسية برامج و ممارسة و مواقف الحزب الشيوعي السوداني.إنهيار المشروع الماركسي للتغيير الإجتماعي(أ) لقد توصلنا من خلال البحث المضني و التأمل المتصل، إلى أن المشروع الماركسي للتغيير الإجتماعي قد إنهار تماما و لم يحدث ذلك بين عشية و ضحاها بل حدث نتيجة تطورات فكرية و سياسية و إجتماعية إمتدت لأكثر من قرن، لكنها تعاظمت على وجه الخصوص منذ خمسينات و ستينات هذا القرن• و يعرف الناس أن هذا المشروع يتعلق ببناء المجتمع الشيوعي، حيث تزول الطبقات و ينتفي إستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، و تلغى جميع إحتياجات الأفراد و تتفتح الفرص للنمو الشامل و اللا محدود للفرد و المجتمع.• تنفذ هذا المشروع البروليتاريا الصناعية، الطبقة الثورية حتى النهاية، و التي ترشحها كل الظروف الموضوعية و الذاتية للقيام بالثورة الإجتماعية الأخيرة و بناء الإشتراكية ثم الشيوعية، حيث يبدا التأريخ الحقيقي للإنسانية.• و تصعد البروليتاريا نحو تحقيق هذا الهدف من خلال إستقطاب طبقي بينها و بين البرجوازية، تتفاقم أثناءه تناقضاتها الأخيرة فتصبح عاجزة عن إدارة المجتمع و تسيير دفة الحكم، و يهجرها أكثر ابنائها ذكاء و بعد نظر، و يصبح العيش تحت ظلها مستحيلا، بينما تزداد قوة البروليتاريا، و تذوب الطبقات الوسطى فتلحق بصفوفها، فتفرض هيمنتها الكاملة و تسدد ضربتها القاضية و تستلم السلطة و تقيم دكتاتوريتها.• إن ما حدث خلال مائة و خمسين عاما، هي عمر المشروع الماركسي، هو النقيض المباشر لهذا التصور. فالإستقطاب التناحري الذي لا يحل إلا بالثورة الإشتراكية لم يحدث في أي من البلدان الرأسمالية المتقدمة. فلا البروليتاريا اختارت الثورة، و لا البرجوازية اختارت المواجهة حتى الموت، و ذلك رغم كل العنف الذي إتسمت به الصراعات التي نشبت بينهما. بل وجدت الطبقتان وسائل "للمساومة التأريخية" و أساليب لحل النزاعات تسمح بوجودهما جنبا إلى جنب، رغم الصراع الدائم بينهما. و قد حدثت تغيرات هائلة من خلال هذه المساومة التأريخية فأعيدت صياغة هذه المجتمعات بصورة لا تستوعبها التبسيطات الماركسية.• لم تذب الطبقات الوسيطة بل صارت في جميع الأقطار المتقدمة، أغلبية المجتمع و تراوحت أعدادها ما بين السبعين و الثمانين بالمائة من القوة العاملة في حين تضاءلت أعداد البروليتاريا بحيث أصبحت لا تزيد عن 17% من القوى العاملة، و 12% في بعض هذه المجتمعات كما إنخفضت أعداد الحليف الإقتصادي للبروليتاريا، المزراعين، لتصبح ما بين 5% و 2% من القوى العاملة، بحيث أن أي حلف بين الطبقتين، حتى و أن شمل جميع المنتمين إليهما لا يزيد عن خمس القوى العاملة، مع إن ماركس و لينين كانا يشيران إليهما بإعتبارهما تسعة أعشار المجتمع.• و لنضرب على ذلك مثلا واحدا، ففي الولايات المتحدة خلقت 18,1 مليون وظيفة في العقد 1982-1992 كان توزيعها كالتالي:1. 284 ألف عاملا صناعيا (من ذوي الياقات الزرقاء) أي بنسبة 1,5% تقريبا.2. 6,3 مليون من المدراء و الفنيين و المهنيين أي بنسبة 35% تقريبا3. 5,4 مليون من موظفي المبيعات و الكتبة و كوادر الدعم الإدارية و الفنية أي بنسبة 30% تقريباو هذه الأرقام تتحدث عن نفسها• إن الأسباب التي أدت إلى هذه الظواهر يمكن إجمالها فيما يلي:1. إنفجار ثورة العلم و التقنية2. الإزدياد الهائل في إنتاجية العمل الإنساني3. إنتقال الإنتاجية من اليد إلى الدماغ• و هذا يعني ببساطة أن البروليتاريا لم تعد القوة المنتجة الرئيسية، ولا القطب الرئيسي في الصراع الإجتماعي، و لم يعد نفوذها هو النفوذ الحاسم بل ظل يضمحل بإستمرار، و لم تعد هي حاملة رسالة الخلاص الإنساني. و على هذا المستوى فقد إنهار المشروع الماركسي.(ب) اتضح-من خضم هذه التطورات- القصور الفادح للنظرية الماركسية حول القيمة، فقد تعاملت هذه النظرية مع كل أنواع العمل الماهر و الخلاق بإعتبارهما قابلة للقياس على أساس العمل غير الماهر. بمعنى أن العمل الماهر و الخلاق ليس سوى ساعات عمل أكثر من العمل غير الماهر، و بذلك فشلت هذه النظرية في فهم الطبيعة المختلفة نوعيا للفعالية الإنسانية الفكرية و العلمية و النظرية المتقدمة، و ما دامت هذه الفعالية قد أصبحت هي الطابع العام للعمل الإنساني، و ستصبح أكثر غلبة في المستقبل فإن الماركسية سيزداد عجزها بإطراد عن فهم المجتمع المعاصر ولا تعود تنطبق إلا على أقل الفعاليات الإنسانية مهارة و أكثرها بدائية.(ت) أعطت الماركسية للفكر مكانا ثانويا و حولته إلى "البناء الفوقي" مع أن أية فعالية إنسانية لا يمكن تصورها إلا كتنفيذ لمشروع نظري. كما أن العلم هو في الأساس فعالية فكرية. و إذا شئنا أن نتحدث لمصلحة التصنيف الإجتماعي، عن بنية تحتية و أخرى فوقية فإننا نضع الفكر كمكون أساسي فيهما كليهما مع التمييز بين أنواع الأفكار. و نصل بذلك إلى بنية معقدة و ليس إلى علاقات مباشرة.(ث) إذا كان إنهيار المشروع الماركسي يجد أمثلته الصارخة في المجتمعات المتقمة، فإن المجتمعات المتخلفة تقدم أمثلة لا تقل عمقا. فالبروليتاريا في هذه البلدان لم تكتسب من الأهمية و لم تبلغ من النفوذ يوما ما بلغته في البلدان المتقدمة. و ليس منظورا أن تبلغ ذلك في المستقبل، لأن هذه المجتمعات لن تتقدم إلا بالإستناد إلى آخر ما توصل إليه العلم و التقنيةو بالطبع فإن إكتشاف خطل نظرية ما في حيز فكري أو جغرافي أو إجتماعي معين، لا يجعل ذلك الخطل ظاهرة محصورة في ذلك الحيز.و نحن لا نقول بأن الماركسية قد تم نفيها نفيا كليا، فمثل هذه الظاهرة نادرة في تأريخ الأفكار. إن الماركسية ما تزال تحتوي على أفكار عميقة و صالحة لفهم بعض ظواهر المجتمع البشري، و هي قد أدت خدمات جليلة للبشرية، بتوضيحها أن المجتمعات يمكن إخضاعها للدراسة و الوصول إلى قوانين تطورها و تسييرها، من خلال الإرادة الحرة لأفرادها، نحو غايات نبيلة، و لو إنحصرت مساهمة ماركس -و هي لم تنحصر في هذا وحده لأحتل مكانه المشروع وسط القائمة الطويلة للمفكرين الإجتماعيين العظام في تأريخ البشرية.إننا لا نريد أن نضع ماركس على راسه، كما قال أنه فعل مع هيجل، بل نريد فقط أن نضعهما معا، على جنبيهما، شأن كل الموتى.الحزب الشيوعي السوداني• خلال ما يقارب نصف القرن فشل الحزب الشيوعي في أن يصبح قوة سياسية ذات شأن. و فشل في وجه التحديد في تحقيق شعره "اجعلوا من الحزب الشيوعي قوة إجتماعية كبرى" و لم يفشل الحزب الشيوعي في ذلك لأسباب عابرة بل لعوامل تتعلق بتكوينه: نظرية، و برنامجا سياسيا، و بنية تنظيمية و مناهج قيادية. و مع إن مسيرة الحزب قد سجلت صعودا كبيرا خاصة إبان الإستقلال و بعد أكتوبر و حتى بداية التسعينات إلا أن هذه المسيرة قد سجلت خطا هابطا بإستمرار منذ تلك الفترة و حتى اليوم.• فشل الحزب في بناء حلف وطني من القوى الحديثة، و بالرغم من أن تلك القوى اتجهت إليه، إلا أنها انفضت من حوله تدريجيا لأنه إعتمد السيطرة بدلا من التحالف، و إحكام القبضة بدلا من التفاعل الحر. و اختار أن يحتفظ لهذه القوى بوجود يتسم بأقصى درجات التشرزم و الشتات خوفا من منافستها له في المجالات التي يعتبرها حكرا عليه.• لم يستطع الحزب أن يطور برامجه لإستيعاب القضايا المعقدة للتركيبة السودانية العصية. و قد حدث ذلك بالرغم من أنه بدا بداية متقدمة، مستندا إلى إرث نظري عالمي، فلم يطور الحزب خطابا، أو يجد لغة مشتركة بينه و بين قبائل السودان و قومياته المختلفة، و ظل وجوده ضيقا و محصورا. فهو إزاء الجنوبيين حزب للشماليين، و إزاء الريف حزب للمدينة و إزاء المرأة حزب للرجال، و إزاء الطبقات الأخرى هو حزب للطبقة العاملة، مع إن نفوذه وسط هذه الطبقة نفسها قد تقلص حتى اقترب من نقطة الصفر.• فشل الحزب في سياساته إزاء القوات النظامية و حدث ذلك في نفس الوقت الذي عمدت فيه القوى المعادية للديمقراطية و على رأسها الجبهة الإسلامية القومية إلى بناء مراكز منيعة داخل هذه القوات و قد أدى هذا في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالديمقراطية• مقدرة الحزب على الدفاع حتى عن نفسه و رد العنف الموجه إلى أعضائه و قادته، دع عنك العنف الموجه إلى الحركة الشعبية، تكاد تكون معدومة، منذ 22 يوليو 1971 و حتى اليوم. و هذا الواقع قد أغرى به أعدائه فأوسعوا أعضاءه ضربا و تعذيبا و قتلا على قارعة الطريق و في بيوت الأشباح. دون أن يخشوا أي عقاب مهما كان. و لكن ذلك لم يمنع قيادته من رفع الشعارات و التهديدات حول الثأر للشهداء و حول دماء الشيوعيين التي لن تتحول إلى ماء.• إتسم خط الحزب السياسي بالزيلية و التبعية و خفوت الصوت و خطه الإعلامي بالعقم و خزينته بالخواء. و إذا كانت هذه هي مصادر القوة الرئيسية لدى أي منظمة سياسية فيمكن الحكم على الحزب على اساسها.• و لكن النقطة الأكثر تدنيا في مسيرة الحزب الشيوعي السوداني تمثلت في فشله الذريع في التصدي لإنقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989، فقد توفرت لقيادة الحزب معلومات موثوقة حول التخطيط للإنقلاب، و الأسلحة التي سينطلق منها، و بعض أسماء قادته، و توقيته على وجه التقريب، توفرت هذه المعلومات الخطيرة لقيادة الحزب الشيوعي فلم تعلن حالة الطوارئ داخل صفوف الحزب، لم تدعو هيئاته و فروعه للإجتماعات الطارئة، لم تطرح أمامها كل المعلومات المتوفرة لديها حول الإنقلاب، لم تطرح عليها الخطط المحددة لمواجهته و هزيمته، لم تعلن التعبئة العامة في الشارع السياسي، لم تبصر الشعب بالخطر الداهم و كيفية مواجهته، لم تدع التجمع الوطني و تخاطبه على أعلى المستويات، لم تضع الجميع أمام مسئولياتهم المنصوص عليها في ميثاق الدفاع عن الديمقراطية.• لم تفعل قيادة الحزب شيئا من ذلك، مع إنها لو فعلت لتمكنت من سحق الإنقلاب في مهده، لأن سحق الإنقلابات لا يحتاج إلى قوة عسكرية مكافئة بل يحتاج إلى إلغاء الشرط الأساسي لنجاحه و هو السرية.• و بدلا من ذلك اختارت قيادة الحزب أسلوبا أمنته بطول الممارسة، هو أسلوب "البلاغات" العادية التي نقلتها إلى مدير الغستخبارات و إلى وزير واحد في الحكومة. و فعلت ذلك و هي تتوهم أنها تمارس نوعا من السياسة العليا، لا تكشف أسرارها لرجرجة الحزب و دهماء الشعب.• إن قيادة الحزب بمسلكها هذا مسئولة أكثر ممن عداها عن نجاح الإنقلاب، بحكم دقة معلوماتها، و بحكم إستبانتها للخطر الماحق الذي تمثله الجبهة الإسلامية على حزبها بالذات.• إن المبادئ الغائبة في مسلك قيادة الحزب هي المسئولية تجاه قاعدتها و تجاه شعبها و تجاه النظام الديمقراطي، أما الظواهر البادية للعيان فهي العجز، و قصور التصورات و الكيفية المتأصلة من المواجهة المباشرة العنيفة مع الجبهة الإسلامية.• و قد إستبان هذا العجز و القصور بعد نجاح الإنقلاب إذ أحجم الحزب خلال أكثر من خمس سنوات من عمر الديكتاتورية عن تبني و نشر تقييم متكامل للسلطة، و رسم تكتيكات فعالة لمواجهتها و إسقاطها و أدار الحزب ظهره –بكثير من الخبث و المرواغة للاسلوب الوحيد الذي يمكن أن يقشع ظلمات الليل المخيم على أهل السودان و يؤدي إلى كسر الجبهة الإسلامية و قصم ظهرها في النهاية.• إن البنية الحزبية القائمة على المركزية المطلقة، المسماة ديمقراطية على سبيل السخرية، لم يكن من الممكن أن تورد الحزب إلى غير موارد الهلاك. فقد إنفردت القيادة الضيقة و الأوتوقراطية، بكل قرار وطني هام، و لم تطرح على عضوية الحزب اية خيارات سياسية يختار واحدا من بينها منذ أغسطس 1970. فالذي ينشر على الأعضاء هو "وثائق" على درجة من العمومية بحيث يمكن بالإستناد إليها تبني هذا الموقف السياسي و نقيضه.• إن قيادة الحزب الحالية فقدت شرعيتها لأسباب لا حصر لها: فالمؤتمر الأخير الذي أنتخب اللجنة المركزية عقد قبل سبعة و عشرين عام في 1967. و قد انتخبها لدورة طولها سنتين! و قد فقدت هذه اللجنة 80& من عضويتها بفعل الإنقسام و الموت و المرض و الشيخوخة، و لا تملك هذه القيادة نية أو خطة لتجديد ذاتها.• نتيجة لهذه الأوضاع المعبرة عن الإفلاس التام هجر صفوف الحزب ما لا يقل عن نصف أعضائه منذ إستيلاء الجبهة الإسلامية على الحكم، و يهم بمغادرة صفوفه حاليا كل أولئك الباحثون عن فعالية سياسية حقيقية.• مع إن الحزب استشعر عمق أزمته و افتتح في أغسطس 1991 مناقشة عامة حول أوضاعه إلا أن هذه المناقشة قد أجهضت تماما. فالحزب بحكم عيوبه التكوينية لا يتسع للراي الآخر، و يعتبره ناتجا عن إختراق الأعداء لبنية الحزب و ترويجهم لفكر "غريب" يمثل مصالح الطبقات غير البروليتارية! و لذلك فإن الراي الآخر لا يظهر إلا كنوع من التآمر، ولا يعبر عن نفسه إلا عن طريق الإنفجار. بالإضافة إلى ذلك فإن الحزب لا يتوفر داخله إلمام مناسب لا بالماركسية التي يجري تقييمها، و لا بالمتغيرات التي تقيم على اساسها. و لذلك يلجأ الناس إلى منطقة الآمان و يهابون الغوص إلى الأعماق، و ينكمشون على أنفسهم مدافعين عن وجودهم بالإنكفاء على الذات و تتضاءل إتباات النمو و الإتساع و يتم الإعداد لبيات سياسي طويل. و قد عبر أحد القادة عن ذلك تعبيرا فاجعا حين قال إن خروج أكثر من تسعين بالمائة من عضوية الحزب لا يؤثر على وجوده أو فعاليته.• إن المناقشة العامة تجري في أجواء هزيمة وطنية، و في وجود سلطة فاشية تهم بإقتلاع جذور الحزب مما يجعل الرؤية تختلط لديه فلا يميز بين فأس القصاب و مبضع الطبيب.• المهم أن المناقشة العامة أجهضت و أصبحت نتائجها معروفة مسبقا، و هي تكريس الأوضاع الحالية للحزب مع إجراء بعض الإصلاحات الشكلية التي لا تمس الجوهروهذا بالضبط ما حدا بنا لإتخاذ الموقف الحاليمن نحن و ماذا نريد؟• إننا لا نخرج من الحزب الشيوعي السوداني هربا من فعالية سياسية اتضح لنا أنها أكبر من طاقاتنا..كلا. فالحزب الشيوعي قد تحول إلى معتقل حقيقي لكل فهالية يؤبه لها. إننا نخرج منه بحثا عن فعالية لم نجدها في صفوفه.• إننا نرى شعبنا يتعرض إلى الفناء..بفعل الحرب، و المجاعة.. و القهر الذي لا يعرف الحدود، و المواجهات غير المتكافئة التي تخوضها جماهير عزلاء من السلاح ضد سلطة مدججة بالسلاح حتى أسنانها، و لا تتورع عن إستخدامه ضد الطفل و الشيخ و المرأة، كما تستخدمه ضد المقاتلين الأبطال الذي يواجهونها في ميادين المعارك.. و هي تفعل ذلك لأنها ليست لديها أية أوهام حول إنها لن تتبق في السلطة ليوم واحد دون القمع، و المزيد منه، و القتل و المزيد منه و الإبادة و المزيد منها.• و نرى بلادنا و هي تتفتت أمام أعيننا كفعل مباشر لإقامة الدولة الدينية بكل ما تعنيه من الإستعلاء و التعصب و الهوس الديني و الطغيان. إن بلادنا المتميزة بتركيبتها المعقدة، و بتعددها القومي و الديني و الثقافي و السياسي، لا يمكن أن تعيش تحت ظل سلطة دينية بأي شكل من الأشكال و بأية صيغة من الصيغ. و قد جاءت محنة الجبهة الإسلامية لتثبت هذه الحقيقة الجوهرية لكل من يرى و لكل من يسمع، و لكل من ينظر إلى شئون الشعب و الوطن من مواقع المسئولية.• إننا نرى بلادنا و هي تدور في حلقة مفلاغة، و نلتف حول عنقها أنشوطة شريرة منذ إستقلالها و حتى اليوم، تتراوح بين الحكم العسكري الديكتاتوري و الحكم المدني العاجز عن حل كل قضية جوهرية. نرى التخلف الإقتصادي المريع بل الدمار الشامل الذي قضى على القليل الذي اشاده شعبنا بالعرق و الدماء. كما نرى المظالم الفادحة التي تعرض لها الاقليات و القوميات و الأقالين المختلفة.• نرى كل ذلك و نقارنه بما يحدث في العالم من حولنا، إذ تنهض أمم عديد من ربقة التخلف و من ثبات القرون لتبني في بضعة عقود، بناءا إقتصاديا جبارا، و نهضة إجتماعية باهرة، تعود على شعوبها بالتقدم و الرفاه و السعادة، و تدفع بها إلى الصفو الأمامية كمشارك أصيل في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة. و نحن نعلم أن شعبنا ليس من حقه فحسب أن يبني نهضته الوطنية الشاملة، و يحقق تكامله القومي و وحدته الوطنية، و ينعم بالعدالة الإجتماعية و السعادة، بل نعلم أن في مقدوره أن يفعل ذلك.• إننا نؤمن أن السياسة ليست سوى حلول ناجعة لقضايا ماثلة تواجهها الشعوب... لم تعد السياسة بالنسبة إلينا مشروعات شمولية تتوهم أنها تقدم حلولا سحرية لكل المشاكل المقصورة التي يمكن أن تواجهها البشرية في الحاضر و في المستقبل... مثل هذه التصورات الشمولية مضى زمانها. و هذا لا يعني أن السياسة لا تمارس في إطار قيم كلية تمثل مرجعية فكرية و أخلاقية بدونها تصبح الممارسة السياسية ميكيافيلية خالصة.• إننا في بحثنا عن إنتماء سياسي جديد ننطلق من إنتمائنا القديم إلى شعبنا... ننطلق من التحديات المهددة للوجود و المزلزلة للكينونة التي يواجهها حاليا... و نسعى إلى توفير الشروط الضرورية لنهضةته الوطنية، و نستند إلى طاقاته المتجددة التي نعلم أنها لا تنفد.• إننا نؤسس لفعالية سياسية جديدة بعد خمس سنوات لحكم الجبهة القومية الإسلامية، خمس سنوات إضطلعت فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان، و الجيش الشعبي لتحرير السودان بالعبء الأساسي في مواجهة السلطة الفاشية و قدمت التضحيات الجسيمة في تلك المواجهة القاسية. إننا إذ نحي بطولة ذلك الجيش و تلك الحركة، تمتلئ جوانحنا بالغضب و يستفز حسنا العدالة من جراء عجز الحركة السياسية في الشمال، ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي، عند تنفيذ مقتضيات الميثاق الذي اعتمد كل أشكال النضال. و لا يخالجنا الشك أن الصورة كانت ستختلف تماما لو أخذ التجمع إلتزاماته مأخذ الجد. و نعلم علم اليقين أن الصورة ستختلف جذريا إذا برزت قوة حقيقية تنفذ الميثاق، و تلتقي مع الحركة الشعبية في أخوة نضالية واسعة مسرحها السودان كله و هدفها تحرير جميع أراضيه، و بناء سودان جديد على أنقاض الدولة الدينية التي ستنهار مرة و إلى الأبد.• إن بروز مثل هذه القوة هو أولويتنا السياسية المطلقة.• إن المبادئ الأساسية التي تنشأ على أساسها هذه الحركة هي التالية: العدالة الإجتماعية الشاملة بأبعادها الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية. فصل الدين عن الدولة و الحزب عن الطائفة، و تقوية مؤسسات المجتمع المدني و حمايتها من الإجتياح السلطوي، و صيانة حقوق الإنسان، و الإنطلاق من حقيقة أن قضايا الإجتماع و السياسة هي قضايا إنسانية و ليست دينية، و أنه لا يوجد برنامج سياسي مقدس، أو يمثل الإرادة الإلهية، و أن شرعية أي برنامج لا تنبع من أي مصدر آخر غير الشعب، و منع قيام الأحزاب الدينية بنفس القدر و بنفس المبدأ الذي يمنع قيام الأحزاب على اسس عنصرية. إن هذا يناى بالدين حلبة الصراعات السياسية التي تفرق أصحاب الديانة الواحدة، و يحفظ له قدسيته، كما ينأى بالسياسة أن تصبح صراعا عقيديا لا يحل إلا بإفناء أحد الطرفين بواسطة الطرف الآخر أو إخضاعه كليا، مما يؤدي بالضرورة، و في كل الحالات إلى نشؤ حكم ديكتاتوري فاشي كالذي نشهد اليوم في السودان. و هذا لا يعني أن السياسيين لن يستلهموا قيمهم الدينية في رسم برامجهم و تحديد مواقفهم.. و لكن هذا الإستلهام سيكون قابلا للخطأ و الصواب و هو بذلك أبعد ما يكون عن القداسة. إن فصل الدين عن الدولة، و الطائفة عن الحزب، هو الضمان الوحيد لقيام الحقوق على أساس المواطنة، و هي قاعدو نعتقد أنها محل إجماع وطني. إن هذا التصور الموجز هو ما نفهمه من العلمانية الديمقراطية كنظام سياسي، و كحقوق اساسية، و نعني الديمقراطية كغرث عالمي، و كنظام محدد و مؤسسات إبتدعتها التجربة الإنسانية و حددت قسماتها و حدودها بدقة كبيرة، فصارت مبادؤها العامة و أشكالها و محتواها معروفة و معترف بها. و هذا لا ينفي بالطبع أن كل شعب من الشعوب يضيف إليها و يغنيها بتجربته الخاصة. إننا نؤمن بحق تقرير المصير لجنوب السودان، و حق الأقليات القومية في حكم نفسها حكما ذاتيا، في دولة لا مركزية تحدد درجة لا مركزيتها من خلال إجماع قومي ديمقراطي، إن إيماننا بحق تقرير المصير لا ينفي أننا وحدويون مقتنعون أن وحدة السودان يمكن أن تجلب خيرا كثيرا لشعبه، و لكننا لا نقمط حق إخوتنا في الجنوب في أن يحددوا خياراتهم بحرية كاملة. إننا نؤمن بأن القوى القادرة على تحويل هذه المبادئ إلى برنامج محدد و واقع معاش، و إخراج السودان من محنته الحاضرة، و بناء مستقبله الواعد، و تحقيق مشروعه النهضوي، هي القوى الحديثة، قوى السودان الجديد، تتكون هذه القوى من المنتجين في القطاعات الحديثة من مثقفين و مزارعين و عمال، و من الأقليات القومية في الجنوب و الغرب و الشرق و الشمال، هذه الأقليات الساعية لبناء سودان جديد تسوده العدالة و المساواة، و يسير في خطى حثيثة لهزيمة التخلف، و تحديث البلاد، و رفع المظالم التأريخية الفادحة. و يتكون من جماهير النساء و الشباب الذين تقهرهم الدولة الدينية أكثر من سواهم و تدمر طاقاتهم و تسحق شخصياتهم و تحبط مشاريعهم. هذه القوى تمثل أغلبية الشعب، قادرة على بناء حلف ديمقراطي فعال بجمعها، قادرة على إنشاء حركة توحد إرادتها، قادرة على الوصول إلى تكوين حزب يمثل مصالحها و يكون أداة لفعاليتها. و لكننا واعون تماما بحقيقة أن أي حركة من الحركات أو أي حزب من الأحزاب لا يصبح حزبا لطبقة من الطبقات، أو فئة من الفئات، إلا إذا عبرت هذه الطبقة و الفئات أو أفرادها إن شئنا الدقة، بصورة صريحة أنهم يعتبرون هذه الحركة حركتهم و هذا الحزب حزبهم، و هذا لا يتم إما بالإنخراط في صفوف الحركة أو الحزب، أو تأييد مواقفه صراحة بمختلف الأشكال، إننا نخرج هنا على الإرث الماركسي الذي يعتبر أن حزبا من الأحزاب يمكن أن ينصب نفسه ممثلا لطبقة من الطبقات دون موافقتها بل و رغما عن أنفها في بعض الأحيان. و نتبنى المفهوم الديمقراطي البعيد عن الوصاية على الجماهير، و القائل بأن الحزب هو أولا حزب أعضائه، و هو ثانيا حزي مؤيديه و هو ثالثا جماع القيم الكلية و البرنامج السياسي و المواقف العملية التي تحكم نموه و توسع نفوذه و تجلب إلى صفوفه أعدادا متزايدة من الجماهير. إننا لا نشارك في المفهوم القائل بأن الحزب لا يكون حزبا إلا إذا عبر بصورة حصرية عن طبقة واحدة من الطبقات و توقف عليها. هذا شئ لا يحدث في مجتمع ديمقراطي، كما لا يحدث في عصر يلعب فيه الوعي دورا يتزايد بإستمرار.• نحن إذا لسنا حزبا جديدا، و لا نرمي بهذا اللقاء، إعلان مثل ذلك الحزب. إننا جزء من المجموعات العاملة داخل السودان، و خارجه في مختلف المهاجر، الساعية نحو تكوين حركة جديدة و حزب جديد يعمل مع تلك المجموعات، على قد المساواة و من مواقع الندية لنصل سويا إلى هذا الهدف. إننا سنتقدم بتصوراتنا حول كل الجوانب الخاصة بنشؤ هذه الحركة و ذلك الحزب و سنتعامل مع تصورات الآخرين بعقل مفتوح و مسئولية كاملة و سنبذل كل طاقاتنا لإنجاح مساعي هذه القوى لعقد مؤتمرها القادم و إنجاحه، بل سيكون التحضير لهذا المؤتمر هو نشاطنا الأساسي في هذه الشهور الثلاثة التي تفصل بيننا و بينه. و قد إتفقنا بالفعل مع كل المجموعات التي حذت حذونا في مصر و كندات و الولايات المتحدة و شرق أوروبا و غيرها من البلدان العربية و الأجنبية، أن تنخرط في العمل الجاد للتحضير لهذا المؤتمر، كما اتصلنا بالداخل لنفس هذا الغرض. و إنه لمن حسن الطالع أن أمر التحضير للمؤتمر قد أسند إلى "المنبر الديمقراطي" في المملكة المتحدة، الذي نعمل معه وفق رؤى موحدة و نشارك معه التحضير لهذا المؤتمر.أخيـــــــرا• إن معركتنا الأساسية موجهة ضد الجبهة الإسلامية الحاكمة في السودان.. و نحن نبدي إستعدادنا التام للتعاون مع جميع القوى السياسية-بما في ذلك الحزب الشيوعي السوداني-لمعرضة هذه السلطة. و نحن نعلن عن عزوفنا التام عن الدخول في أي معارك جانبية مع هذه الجهة أو تلك.• و نحن نعلم أن السلطة الفاشية ستهلل لهذه التطورات، و لكننا على يقين تام بأن فرحتها لن تدوم.الخاتم عدلان د. عمر النجيبد. خالد حسين الكد د. أحمد علي أحمد
<< Home