news & views

Monday, June 27, 2005

ايران والسودان


ايران والسودان ومستقبل الجمهوريات الاسلامية في الزمن الضائع
د. عبدالوهاب الافنديفي
عام 1985 اجرت مجلة آرابيا التي كنت اتولي ادارة تحريرها مقابلة مع الدكتور حسن عبدالله الترابي زعيم الجبهة القومية الاسلامية الحديثة التكوين وقتها، تناولت قضايا مختلفة تتعلق بالشأن السوداني ودور الاسلاميين في الساحة السياسية السودانية. وكان من ضمن الاسئلة التي وجهت للدكتور الترابي سؤال عن الجهود التي تقوم بها الجبهة الاسلامية للتواصل مع القوي السياسية الاخري وبناء التحالفات معها. وكان رده ان الجبهة لم تكن حريصة علي مثل هذا التواصل، وان تركيزها سيكون علي بناء نفوذها السياسي وتحقيق طموحاتها في ان يكون لها الحجم السياسي الاكبركتبت في حينها تعليقا علي هذه المقابلة نشر في نفس العدد بعنوان الفرق بين التكتيك والاستراتيجية انتقدت فيه هذا الموقف المتصلب من التعامل مع القوي السياسية الاخري. وكان فيما قلت في ذلك التعليق ان السودان ليس ايران، وان مشروع اقامة دولة اسلامية فيه بأجندة منفردة لن يصمد طويلا امام الضغوط الخارجية الشرسة المتوقعة، خاصة في ظل استمرار الحرب الاهلية وشح الموارد المعروف للجميع، ايران بالمقابل تمتعت الثورة فيها برصيد جماهيري شعبي كاسح، ولها ثروات طبيعية نفطية وغير نفطية، وقدرات صناعية متطورة وسكانها كلهم مسلمون تقريبا، ومع ذلك تعرضت لاشرس الهجمات من الخارج. ومن هنا ينبغي علي اسلاميي السودان ان يتبنوا مشروعا معتدلا يسعي لبناء التوافق بين القوي الاسلامية والتعامل المرن مع الجنوب غير المسلم في غالبية اهله.الآن وبعد مرور عشرين عاما عن هذا التعليق، تشهد الساحتان السياسية الايرانية والسودانية احداثا جساما في طريق التحول من يوتوبيا الثورة الاسلامية الي انظمة براغماتية تصارع من اجل البقاء. ففي الاسبوع الماضي شهدت ايران انتخابات رئاسية تتجه الي ان تعيد الي السلطة الشخص الذي ارتبط اسمه بتحول المشروع الثوري الاسلامي في ايران الي مشروع بازار للصفقات السياسية والاقتصادية، الا وهو السيد اكبر هاشمي رفسنجاني، مهندس عصر ما بعد الخمينية في ايران. وفي السودان عقدت الحكومة السودانية صفقة في القاهرة الاسبوع الماضي ايضا تقصد الي استيعاب احد ابرز فصائل المعارضة السودانية في التركيبة السياسية التي اجبر الاسلاميون فيها علي اقتسام السلطة مع متمردي الجنوب، المناويء الاكبر للمشروع الاسلامي السوداني. ولعل المفارقة الاكبر ان هذه الصفقة عقدت في القاهرة، وبرعاية نظام كامب ديفيد عراب المشروب المناويء لمشروع الاسلاميين في المنطقة، وهو امر له دلالاته العميقة التي لا تخفي علي الهزيمة الساحقة للمشروع الاسلامي السوداني الذي اصبح يتسول البقاء من اعتي خصومه.ولعل هذه التحولات الكبيرة في مكانة وتوجهات اصحاب المشاريع الاسلامية الثورية في المنطقة مدعاة للتأمل في مآلات مشاريع الاحياء الاسلامي ووعودها التي طبعت وشكلت احداث القرن الماضي والتساؤل حول ما اذا كانت هذه المشاريع قد وصلت الي طريق مسدود كما صرح اوليفر روي في كتابه فشل الاسلام السياسي 1994. فقد ولدت هذه المشاريع كنتاج لمخاض فكري وسياسي طويل، بدأ مع الانتفاضات الاسلامية في القرن التاسع عشر، والتي انتظمت العالم الاسلامي من نيجيريا والجزائر غربا، الي الهند شرقا، مرورا بالجزيرة العربية والسودان. وقد اعقبت هذه الانتفاضات ثورات وهبات اخري، مثل الثورة الدستورية في ايران (1905 ـ 1906) والثورة العربية الكبري (1917 ـ 1918) وثورة 1919في مصر وثورة 1924 في السودان، وحركات اخري لا تحصي في الهند والعراق وسورية ثم ثورات مصر (1952) والجزائر وعهد الانقلابات ثم الثورة الفلسطينية.فكريا كانت هناك مساهمات جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وقاسم امين وطه حسين وميشيل عفلق والعقاد وسيد قطب والخميني والمودودي وعلي شريعتي، وعشرات غيرهم وكانت هناك الحركات الاسلامية والاحزاب الاشتراكية والشيوعية، والحركات القومية والاحزاب والتيارات الليبرالية.ومن هذا المخاض برز عهد ظهر فيه ان المشروع الاسلامي قد شهد ما يشبه الكسوف الكلي، وان الغلبة فيه قد تمت للبدائل العلمانية، سواء اكانت يسارية ثورية او تقليدية موالية للغرب. فقد ضربت الحركات الاسلامية وتمت تصفيتها في مصر وسورية والعراق والسودان وتونس، وخنقت في مهدها في المغرب والجزائر وليبيا، بينما اندمجت في الواقع القائم في دول الخليج والاردن واليمن وشبه القارة الهندية وذابت فيه او كادت.ثم جاءت السبعينات ومعها ظاهرة الصحوة الاسلامية التي احتار المحللون وما زالوا في اسبابها واسرارها، فعادت حركة الاخوان المسلمين الي الحياة في مصر وهيمنت علي الساحة السياسية بحيث لم يكن ينافسها في الشارع الا حركات اسلامية اخري اكثر تشددا. وفي ايران انفجرت الثورة الاسلامية وفي كل بلد عربي واسلامي اخر نمت الحركات الاسلامية وتوسعت، ومن اندونيسيا وماليزيا شرقا الي المغرب ونيجيريا غربا برغم القمع المتواصل.في ظل هذا النمو المتسارع للحركات السياسية ذات التوجه الاسلامي، وفي ظل ضمور الحركات السياسية والفكرية المنافسة، لم يكن هناك ما يحول بين هذه الحركات وتولي السلطة في بلدان عدة من العالم الاسلامي الا قصورها الذاتي وعدم وضوح رؤيتها حول التغيير، ففي ظل اوضاع سياسية يتزايد فيها الدعم الجماهيري باضطراد للحركات الاسلامية، وتشيخ الحكومات والانظمة وتؤول للانهيار، وتشهر الحركات البديلة من اشتراكية وقومية افلاسها كانت النتيجة الطبيعية هي ان تتجه هذه الحركات الجماهيرية للاستيلاء علي السلطة، اما عبر ثورة شعبية او عبر الانتخابات او بأي وسيلة اخري.ولكن هذه الحركات لم يكن ينظر اليها، ولم تكن هي تنظر الي نفسها، علي انها حركات سلطة، بل كانت علي ما يبدو تميل الي لبوس لباس المعارضة الابدية، وهو توجه تؤكده برامجها غير الواقعية، وكونها من نوع جماعات الموضوع الواحد (مثل حركات البيئة او محاربة الاجهاض او غيرها من الحركات المطالبة في الديمقراطيات الحديثة) فهذه الحركات لها برنامج واحد، هو تطبيق الشريعة الاسلامية والتي بدورها تنحصر في جوانب محددة من قانون العقوبات والاحوال الشخصية.الحركة الاسلامية السودانية كانت احد الاستثناءات النادرة في هذا المجال، حيث وضعت نصب عينها منذ وقت مبكر هدف الوصول الي السلطة، وبخلاف حركة الاخوان في مصر التي ما تزال تؤكد علي لسان قادتها ان الوصول الي السلطة لم يكن هدفا لها وليس هو هدفها الان، فان اسلاميي السودان صرحوا مرارا بأنهم يريدون السلطة ولا يخجلون من هذا المطلب.من هنا فان تحقق هذا الحلم بطريقة او اخري لا بد ان يكون له انعكاس علي مشاريع وتوجهات الحركات الاسلامية الاخري ومستقبلها. وبالفعل فان ما حدث ويحدث في السوادن منذ ان بدأ الاسلاميون السودانيون مشاركتهم في السلطة في نهاية السبعينات من القرن الماضي ظل محط اهتمام كل الاسلاميين وخصومهم ايضا.اليوم نتأمل حصيلة المشروع الاسلامي في السودان ونظيره في ايران فنري معالم ازمة اكثر مما نري ملامح وعد. ففي كلا البلدين فشل المشروع في اهم هدف من اهدافه، وهو طرح بديل اسلامي للحكم يجد القبول الجماهيري ويشكل تحديا للمشاريع البديلة من ليبرالية واشتراكية وقومية وغيرها.بمعني آخر لم يقدم الاسلاميون لا في السودان ولا ايران ردا مفحما علي مقولة فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ وغلبة وهيمنة المشروع الليبرالي الملامح التي تفتخر بها هذه الانظمة (مثل البرلمانات والانتخابات والديمقراطية ـ وفي حالة السودان النصوص الدستورية حول احترام حقوق الانسان وحريات التعبير والتنظيم) هي في نهاية الامر مستعارة من المشروع الليبرالي. وحتي في الجانب الباقي، ويعني بذلك ادوات القمع والسيطرة التي يعتمد عليهما النظامان في البقاء، مثل الاجهزة الامنية، والقوانين الاستبدادية، والقضاء المسيس، فهي ايضا تفتقر الي اصالة اسلامية ـ اللهم الا اذا كنا نستهدي بسنة الحجاج وزياد بن ابيه ـ بل هي ايضا مستنسخة من انظمة اخري باد معظمها والبقية (الصين وروسيا وكوبا وكوريا الشمالية الخ) في طريقها الي الزوال.النموذج الايراني له علي الاقل اطار دستوري متفرد هو صيغة ولاية الفقيه وتوابعها من مؤسسات الحكم الديني ولكن تجربة السنوات الثمان الماضية تشير الي رفض جماهيري لهذه الصيغة التي فقدت رصيدها الشعبي واخذت تعتمد علي القمع المجرد، اما في السودان فلم يطرح الاسلاميون اصلا رؤية دستورية لانهم امضوا الشطر الاول من فترة حكمهم وهم ينكرون توجههم الاسلامي، والشطر الثاني وهم يتبرأون منه. اما الصيغة الدستورية التي توصلوا اليها في اتفاقيات نيفاشا ودعموها الاسبوع الماضي بالاتفاق مع التجمع الوطني الديمقراطي، فهي صيغة ليبرالية في نهاية المطاف، هذه الصيغة وان كانت تسمح باستمرار قوانين الشريعة ـ بمعناها القانوني البحت والمحدود النطاق ـ في شمال السودان الا انها ترهن الأمر كله باجراءات ديمقراطية انتخابية لا تمنح ضمانة باستمرار هذا الوضع، بل ان بعض اطراف الحكومة المرتقبة ملتزمون في برامجهم بالغاء هذه القوانين.يمكن اذن ان نقول ان المشاريع الاسلامية في ايران والسودان بصورتها الحالية تتجه الي اندثار وشيك، وهو مصير لا يمكن ان تلام عليه قوي الاستكبار العالمي والضغوط الخارجية. بل بالعكس، ان الانظمة المعنية اثبتت قدرة كبيرة علي مواجهة الضغوط، وان كانت كثيرا ما تصدت لهذه الضغوط بتقديم تنازلات علي حساب المباديء باعتماد القمع داخليا والتنازلات السياسية والعقائدية للخارج. فشل المشاريع سببه خواء هذه المشاريع من اي مضمون فعلي متميز تقدم بديلا حقيقيا لنظم الحكم غير الاسلامية، ويجد القبول لدي الجماهير.وليست الجماهير عامة هي التي لا تجد الاوضاع القاتمة والقيادات المشرفة عليها ملهمة، بل كذلك قطاع واسع من الصف الاسلامي، بمن في ذلك قيادات المشروع الثوري نفسه. ففي السودان ما يزال مهندس المشروع الاسلامي السوداني د. حسن الترابي يقبع في السجن في اعتراف من حوارييه السابقين بأنه يتمتع بدعم جماهيري يفتقدونه، بينما ينظر غالبية الاسلاميين الي الوضع الحالي بكثير من المرارة وخيبة الامل. وفي ايران فان عشرين مليون مواطن صوتوا في انتخابات 1997 لصالح التغيير، بينما يعتبر اول رئيس وزراء لايران الاسلامية، وثاني رئيس جمهورية والخليفة المعتمد السابق لاية الله الخميني، وكثير من قيادات الثورة السابقين من المعارضين اليم.واذا كان للمشروع الاسلامي ان يستعيد شيئا من مشروعيته والا يلحق بالحلم الشيوعي وغيره من المشاريع التي فقدت كل بريق واصبح انصارها المخلصون اول من يعترف الان بفقدان كل امل في احيائها، فانه لا بد من استخلاص العبرة من الكوارث الاسلامية في السودان وايران.ولا ننسي بالطبع افغانستان طالبان وكذلك التجربة السعودية، اول وانجح محاولة للاسلمة في العصر الحديث، وهي ايضا اليوم موضوع انتقاد الاسلاميين قبل غيرهم.